الأربعاء، 27 فبراير 2019

ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثالثة


بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثالثة

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

(الطريق الثاني):
ما رواه الليث بن سعد، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ـ وهو على المنبر ـ : «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنّما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» [صحيح البخاري: ج٦ ص١٥٨].

وينبغي هنا ملاحظة أمور..

أولاً: إنّ هذه الصيغة تضمّنت استئذان بني هشام بن المغيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في أن يزوّجوا أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنة أبي جهل، ولم تتضمّن أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أقدم على الخطبة، بل مضمونها ينسجم مع إقدام بني هشام ابتداءً، ولعلّ ذلك كان منهم طمعاً في اكتساب وجهة اجتماعية في ظلّ الظروف الجديدة حيث انقلب وضعهم الاجتماعي إلى النقيض بعد فتح مكّة، وأصبح حالهم كحال أتباع النظام السابق بعد حلول نظام جديد معارض.
بل يمكن القول: أنّه لو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المقدم على الخطبة فلماذا صبّ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ بحسب هذه الرواية ـ غضبه على بني هشام بن المغيرة بدلاً عن صهره (عليه السلام) مع كونه هو المقدم على الخطبة وعلى إغضاب الزهراء (عليه السلام) لا بنو هشام؟! فهذا مؤشر على عدم صدور الخطبة منه (عليه السلام).
ويتضحّ ممّا تقدّم أنّ هذه الصيغة لا تشتمل على تطبيق (يريبني ما رابها ويؤذيني ما يؤذيها) على أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لأنّها لا تدلّ على صدور الإيذاء والإرابة منه. وعلى ذلك فلا يواجه الاستدلال بهذه الصيغة إشكالية التفكيك داخل الحديث الواحد.

ثانياً: تفترق هذه الصيغة عن الصيغة السابقة التي رواها الزهري في عدة أمور لا بأس بأن نسلط الضوء عليها ليتبيّن للقارئ حجم الوضع في رواية الزهري المتقدمة:
١. ما ذكرتُه أعلاه من عدم تضمّن هذه الرواية لقصة خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنة أبي جهل، وتضمّن رواية الزهري لها.
٢. نسبت رواية الزهري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (فإنّي أخاف أن تفتتن [فاطمة] في دينها)، وهو ما خلت عنه هذه الرواية.
٣. نسبت رواية الزهري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) اقتران ذمّه لأمير المؤمنين (عليه السلام) بمدح صهر له من بني عبد شمس [جد بني أمية] ـ وهو أبو العاص بن الربيع ـ ، وهو ما خلت عنه هذه الرواية.
٤. تضمّنت هذه الرواية قول النبي (صلى الله عليه وآله): «يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»، وهو ما حذفه الزهري.
وإذا لاحظت هذه الفروقات تجد أنّ جميعها تصبّ في سبيل الانتقاص من آل البيت (عليهم السلام) ومدح خصومهم.
والعجيب أنّ المستشكل الذي يرفض أحياناً عشرات الروايات التي تشتمل على ما لا يوافق هواه قد قبل حديث راوية بني أمية الزهري وصدّقه في حكايته المكذوبة عن الإمام السجاد (عليه السلام) ورتّب على ذلك بعض النتائج ـ التي سنتطرق إليها لاحقاً ـ، وهذا ناتج عمّا نبّهنا عليه مراراً من انعدام المنهج العلمي في التعامل مع الروايات لدى المستشكل.

ثالثاً: هل نستطيع أن نعتمد على الليث بن سعد في هذه الصيغة التي حكاها عن عبد الله بن مليكة أم أنّ بعض الإضافات في هذه الحديث هي من الليث بن سعد ولم ينقلها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور؟
لا نستطيع أن نجزم بأيّ من الأمرين، لكنّا لا نستطيع أن نطمئن بأنّ هذه الصيغة هي التي رواها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور لمجموع أمرين:
١. إنّ رواية عبد الله بن أبي مليكة عن المسور قد نقلها عنه شخص غير الليث بن سعد ـ كما سيأتي في الطريق الثالث ـ ، وحينما نرجع إلى نقل ذلك الشخص لا نجد فيه بعض الإضافات الموجودة في هذا الطريق.
٢. لم يثبت عندنا أنّ الليث بن سعد ممّن يوثق به خصوصاً في أمثال هذه المواضيع، وقد قيل في حقّه: (كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدّثهم بفضائل عثمان فكفّوا عن ذلك) [تاريخ بغداد: ج١٣ ص٨].

رابعاً: لو فرضنا أنّ الليث بن سعد كان صادقاً وأنّ هذه الصيغة هي التي رواها ابن أبي مليكة عن المسور فمع ذلك لا يمكننا الاعتماد على هذه الرواية؛ فإنّه ـ مضافاً إلى اختلاط ابن أبي مليكة مع ابن الزبير وكونه قاضياً ومؤذناً له ـ سيأتيك في الطريق الرابع للحديث ما لا ينسجم مع الإضافات التي في هذه الصيغة ممّا يسلب الوثوق عنها، فترقّب.

(الطريق الثالث):
ما رواه عمرو بن دينار عن عبد الله بن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «فاطمة مني، فمن أغضبها أغضبني» [صحيح البخاري: ج٤ ص٢١٠].

وهذا الطريق يشترك مع الطريق السابق في الراوي الثاني (عبد الله بن أبي مليكة)، لكنه يختلف عنه في الرواي الثالث فهو هنا (عمرو بن دينار) وهناك (الليث بن سعد)، وهذه الصيغة التي يرويها عمرو بن دينار لا تشتمل على الإضافات الموجودة في رواية الليث بن سعد، وهذا الأمر ـ مع ملاحظة عدم وثوقنا بالليث بن سعد كما تقدم ـ يجعلنا نتردد في أنّ الصيغة التي رواها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور هل هي مطابقة مع رواية الليث [فيكون عمرو بن دينار قد روى جزءاً من الحديث ولم ينقل الباقي] أم هي مطابقة مع رواية عمرو [فيكون الليث بن سعد قد أضاف على الحديث ما ليس فيه]، وسيظهر لك أثر هذا التردد قريباً إن شاء الله.
وعلى كلا التقديرين فإن رواية عبد الله بن أبي مليكة ـ سواء بنقل الليث أم بنقل عمرو ـ لا تشتمل على تطبيق الفقرة المزبورة على أمير المؤمنين (عليه السلام). ويوجد هناك طريق رابع أخير لهذا الحديث لا بدّ من ملاحظته لننتقل بعد ذلك إلى ذكر النتيجة النهائية إن شاء الله تعالى.