السبت، 19 سبتمبر 2020

تعليقات موجزة حول التشكيك بتاريخ السفراء الأربعة

 بسم الله الرحمن الرحيم

تعليقات موجزة حول التشكيك بتاريخ السفراء الأربعة

كتبَ ميثاقُ العسر هذا النصّ محاولاً إيراد شبهةٍ بحقّ سفراء الإمام الحجّة (ع):

وهنا ينبغي الإشارة إلى جملةٍ من النقاط:

[1] للبحث في المسائل التاريخيّة التي تتعلق بالتشيّع، يمكنك أن تحاورَ المتعهّد والملتزم بالأدلّة الصحيحة وأن تصل معه إلى نتيجةٍ، أما من ينتقي وفقاً لمزاجه فإنّك لا يمكنك أن تتفاهم معه، وعلى سبيل المثال ما يحاول هذا الكاتب إبرازه في مسألة السفراء الأربعة، فهو يحاول أن يُوقِعَ واقعاً عاشه من خلال تجربته مع جهةٍ دينيةٍ ما على السفراء الأربعة، ويريد أن يوحيَ للقارئ أنّ مسألة السفراء الأربعة نشأت من سطوة عائلة (بني نوبخت) التي فرضت نفسها على الواقع الشيعيّ، مع أنّه من المستحيل أن تنضوي طائفة بأكملها تحت لواء عائلة واحدة في مقابل وجود بيوتات علميّة أخرى ترى لنفسها وزناً في التشيع أمثال آل أعين وبني بابويه وأشاعرة قم وغيرهم، فكيف يتصور رضوخ قم وبغداد وسائر المناطق إجماعاً بما فيها من عائلات ذات ثقل علمي أمام بني نوبخت، فعلى الأقل، لماذا لم ينازعوهم؟! إذا كانت المسألة ليست تعبّدية، بل سطوة عائليّة فما سر اتّفاق الشيعة على مرجعية السفراء الأربعة، مع أنه لم يكن من بني نوبخت أحد منهم إلا ثالث السفراء فقط، فيا لهذه السيطرة المزعومة!!

[2] كيف عرف المشكك بأن تلك التهم كيدية، ولازم ذلك أنه وقف على حقيقة تلك القضايا، وميز الحق من الباطل، فلماذا لم يتحف متابعيه بدليل هذا الاكتشاف، أم أن القضية من إفرازات الولع بالتشكيك!! هكذا يضمّن شبهاته (فتاوى جاهزة) كالعادة، وبذلك يصبح الاتهام دليلاً، وتصبح الدعوى دليلاً (!).

[3] إنّ الدليل الصحيح يقودنا إلى أن أمر السفارة بدأ بالعمري وابنه، ولا يوجد في الكتب دليلٌ واحدٌ على وجود أثر لبني نوبخت في اختيار هؤلاء، بل الثابت بالأسانيد العالية الصحيحة أنّ وثاقة العمري وابنه واختيارهما كوجوه موثوقة للشيعة كان من قِبل الإمام العسكري (عليه السلام) وفي الرواية قول الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري: (وأخبرني أبو علي [أحمد بن إسحاق الأشعري الثقة الجليل] أنه سأل أبا محمد عليه السلام عن مثل ذلك، فقال له : العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك)، رواه الكليني وسند الرواية صحيح باتفاق علماء الرجال، لم يطعنوا في وثاقة وصدق رجلٍ منهم، ولا قطع في الإسناد ولا خلل، وفي هذا الإسناد قال السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره: ( إِذن فمثل هذه السلسلة الذهبيّة ممّا يطمئن بصدق تمام رواتها) [بحوث في علم الأصول، بتقرير السيد محمود الهاشمي الشاهروديّ].

وهنا يمكن للعاقل أن يتخيّر بين أن يأخذَ بهذه الحجج أو تحليلات المجهولين الذين مرّوا بتجارب نفسيّة سيئة جداً خلال حياتهم (الدينيّة).. على أنّ مسألة وثاقة السفراء الأربعة كانت محل اتّفاق جماهير الشيعة، وفي ذلك يصف الثقة الجليل هارون بن موسى التلعكبري مسألة انحراف الشلمغاني عن السفير الثالث: «أقامت الشيعة على لعنه والبراءة منه» [غيبة الطوسي] ما يعني أنّ انقياد الشيعة لهؤلاء كان محلّ تسالمٍ، والخارج عنهم منبوذٌ في الطائفة.

[4] إذا قبلنا بالتفكير بسذاجة في أنّ آل نوبخت هم من كانوا يديرون دفّة الزعامة وصنعوا هذه الزعامة لأنفسهم من خلال دعوى السفارة، فلماذا سلّم السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي السفارة لشخصٍ ليس من عائلته، ولماذا يخسرون موقعاً كبيراً للتحكم في التشيع فأغلقوا باب السفارة وبثوا النص على تكذيب مدّعيها، فأصحاب الزعامات والسطوات لا يبحثون إلا عن بقاء نقاط القوّة بأيديهم، فلماذا أغلقوا باب السفارة؟! وجلسوا بدون أي منفذ قوة، فلا سفارة ولا مرجعية ولا زعامة، وإنّما انتهى الأمرُ إلى قيادة الفقهاء.

[5] عملُ السفراء الأربعة لم يقتصر على تلقي الأموال ونقلها، بل كانوا يتصدون للأمور الدينية، وهذا لا يخلو من أن يكون هؤلاء يكذبون ويضللون طائفةً بأكملها، أو أنهم صادقون، فإن كان الأول فهذا مفوّت لأغراض الشارع وناقض لغرض الهداية بما يمحو صورتها تماماً، ويستدعي من الإمام أن يتصدى لذلك أو أن ينصب من يبين هذا، على أن يظهر كذب السفراء في زمانهم لا سنة 2018 على الفيسبوك. أو أنّ هؤلاء أهل ثقة وصدقٍ وأمانة كما هو الثابت من توثيقهم من قِبل المعصوم (عليه السلام) والمتفق عليه بين جميع علماء الإماميّة. على أنّ الرجل المشكك لا يهتمّ للإلزام بضرورة تصدي الإمام في وجه السفراء المدّعين المضللين لطائفة بأكملها؛ لأنه لا يعتقد بوجود الإمام أصلاً، يفهم هذا من يقرأ ما بين السطور(1)، وإنما يدغدغ مشاعر السذّج والبسطاء ومن لا يقرؤون شيئاً فشيئاً حتى يوصلهم للشك بتمام مفردات العقيدة واحدةً واحدة حتى يرمي بهم في وحل الإلحاد.

[6] العاقل ينبغي له أن يتخيّر بين التحليلات التي لا تخفى فيها الآثار النفسيّة الحادّة من التجربة السابقة للكاتب - وهو معروفٌ لمن عرفه - وما هي الصدمات والإخفاقات التي مُنِي بها خلال مسيرته (التجارية الدينية)، وبين أن يأخذ بالأدلة الصحيحة والموثوقة من كتب العلماء المقطوع بصدقهم وأمانتهم مع بروز الشواهد الكثيرة على عدم تواطؤهم على الكذب.

[7] الذي يضحكُ في تحليل هذا الكاتب الفذّ، أنّه كان يطالب دوماً القراء بالتفكير خارج الصندوق، إلا أنّه هذه المرة فكّر بطريقة الصندوق الذي كان محبوساً فيه لسنوات، فقد كان عضواً في مافيا دينية نَمَتْ على السطوة الماليّة والإعلامية التي حظيت بها، ويبدو أنّه عمل بالاستصحاب القهقرائي وظنّ أن التشيع منذ بدايته هكذا، وظنّ أنه ما كان هناك صادقون ولا مخلصون، ولعله يظن الكليني والصدوق أمثال أستاذه المبارك الذي نما وترعرع عبر المال والإعلام وسرقة الكتب من المؤلفين، وهنا سؤال أخير:

يوماً ما، كنتَ قد وصفت أستاذك الحيدري بـ(العلّامة) وأنت تروج دروسه وكتبه ثم خرجت علينا في صفحتك لتفضحه ولتقول إنه لا يعرف المسائل الخلافيّة مع أهل السنة، وفي الفلسفة سرق من الشيخ غلام رضا فياضي وووإلخ، ووجدت لنفسك تبريرات لخديعة الناس يوم كنت تقول لهم إن أستاذك علّامة!!.. فما الضامن للقراء أنّك الآن لا تخدعهم في حيلةٍ أخرى لا سيّما أنك بوقٌ يجري في الاتجاه الذي يُدفع به؟!!

____________

(1) كتب الشيخ إبراهيم جواد هذا الرد في صفحته الشخصيّة بتاريخ 4/3/2018 ولم يكن ذلك المنحرف قد صرّح علانيةً بنفي وجود الحُجّة (عليه السلام)، وهو الآن كما قيل حقّاً يجرُّ الآخرين إلى الإلحاد فقد وصل مؤخراً إلى مرحلة الطعن في القرآن الكريم مدّعياً أنّ جمعه لم يكن أمراً قد اهتمّت به (السماء)، كما نفى الإمامة، وطعن في مقامات أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم..فبئس العاقبة التي انتهت بتُجّار الدين.

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

قال ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) بعد أن سرد جملة من الأسئلة التي تتعلّق بنهضة سيّد الشهداء (عليه السلام) وطبيعة الاستفادة منها ما نصّه: (اعتقد أنّنا بحاجة ماسّة إلى التجرّد عن عواطفنا ومذهبيّتنا المفرطة لإعادة قراءة حركة الحسين بن علي ومعرفة فلسفتها بعيداً عن المسحة الغيبية المفرطة التي مُسحت بها منذ القرن السابع الهجريّ وحتى اليوم؛ ومن غير ذلك سيستمر المعمل العاشوريّ المتداول في انتاج طقوس وممارسات يومية وسنوية نُسلّي بها عواطفنا ومشاعرنا ونملأ بها جيبونا [ظ جيوبنا] لا عقولنا، ومفتاح حلّ جميع هذه الأمور هو خلع النظارة المذهبية وإعادة قراءة مفردة علم الإمام وموضعتها في مكانها القرآني والنبويّ السليم بلا إفراط أو تفريط)، انتهى.

إنّنا إذا أردنا نقد أيّ قراءةٍ لواقعة كربلاء لا بُدّ لنا من التنقيب عن جذورها ومستنداتها التي بُنيت عليها، وإلّا فلن نتمكّن من إنتاج تحليلٍ سليمٍ ونقدٍ علميٍّ متينٍ بشأنها، وحيثُ إنّ ما يكتبُه العسر لم يخرج عن نطاق الفتوى والادّعاءات الجوفاء التي تكشف عن قصورٍ في التتبع وعجزٍ عن التحليل والاستنتاج فضلاً عن ضعفه في تقديم المعطيات أمام القرّاء بكل وضوحٍ وشفافيّةٍ ادّعى أن واقعة كربلاء قد أُلصقت بها مسحة غيبيّة مُنذ القرن السابع الهجريّ من دون دليلٍ يُذكَر. وانطلاقاً من هنا نسعى في هذه المقالة إلى بيان مستندات هذه القراءة بالنحو الكافي الذي يسمح به المجالُ أمامنا، ونقول: إذا أُطلقت المسحة الغيبية على قراءة واقعة كربلاء فيُحتمل منها إرادة أمرين اثنين أو أوّلهما بالخصوص:
الأمر الأوّل: يتعلّق بطبيعة حركة سيّد الشهداء (عليه السلام) وأنّه عالِمٌ بمقتله في كربلاء، وإذا ثبت ذلك فسوف يكون خروج سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه مقروءاً بنحوٍ مُغايرٍ عمّا لو كان خروجه كخروج غيره من ناحيةٍ عمليّةٍ.
الأمر الثاني: يتعلّق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة وعظمتها.
وسوف نتكلم في الأمر الأوّل لأهميّته وكونه هو المقصود جدّاً عند جملة من المشكِّكين، أما الأمرُ الثاني فسوف نحيلُ إلى بعض الدراسات والتحقيقات المهمّة بشأنه.

[1] جذور القراءة الغيبيّة لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام)

إنّ نسبة ورود الجانب الغيبيّ إلى قراءة واقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ لا تخلو من جهلٍ بواقع تلك القراءة؛ فإنّ مستنداتها بارزةٌ منذ قرونِ المتقدّمين، ولم يكن الأمرُ محصوراً بالسيّد ابن طاوس أو غيره ممن كتبَ في هذا الموضوع خلال القرن السابع الهجريّ، ولبيان أبعاد هذه المسألة سوف نشير إلى جانبيْنِ أساسيّين:
الجانب الأوّل: وجود مستنداتٍ علميّة معرفيّة تُدعّم القراءة الغيبيّة خلال قرون المتقدّمين.
الجانب الثاني: إبراز العامل الكميّ والكيفيّ الذي تميّزت به هذه المستندات.

أمّا بالنسبة للجانب الأوّل: فإنّ روايات الإخبار بمقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء قد رُويت في المصادر الإمامية والزيديّة والسنيّة، نذكر جملةً منها:
1. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه (ت:368هـ) بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الخزاز، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الملك بن أعين، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في بيتِ أمّ سلمة وعنده جبرئيل عليه السلام فدخل عليه الحسينُ عليه السلام، فقال له جبرئيل: إنّ أمّتكَ تقتل ابنَك هذا، ألا أريك من تربة الأرض التي يُقتل فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم. فأهوى جبرئيل عليه السلام بيده وقبض قبضةً منها فأراها النبيّ صلى الله عليه وآله)، انظر: كامل الزيارات، ص137، رقم الحديث 144، الباب 17، ح4.
2. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثني سعدُ بن عبد الله بن أبي خلف، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إنّ جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله والحسينُ عليه السلام يلعب بين يديه، فأخبره أنّ أمته ستقتله. قال: فجزع رسول الله صلى الله عليه وآله..إلخ)، انظر: كامل الزيارات، ص135، رقم الحديث141، الباب17، ح1.
3. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله (ت:499هـ) بإسناده عن أم سلمة (رضي الله عنها)، قال: (أخبرنا محمد بن محمود بن قحطبة بن بندار المقري بقراءتي عليه في جامع الكوفة، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي حكمة الثيملي التمار المعروف بابن أبي قراب، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن صالح بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا سعيد بن سلمة وهو ابن أبي الحسام، قال: حدثني جد موسى بن جبير، عن عبد الله بن سعيد، عن عبيد الله، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: بينما حسين عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البيت وقد خرجت لأقضي حاجة ثم دخلت البيت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ حسيناً فأضجعه على بطنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه من الدمع، فقلت: يا رسول الله، ما بكاؤك؟ قال: " رحمة هذا المسكين، أخبرني جبريل عليه السلام أنه سيقتل بكربلاء، قال: دون العراق، وهذه تربتها قد أتاني بها جبريل عليه السلام)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص219، رقم الحديث 800.
4. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأرجي بقراءتي عليه في باب الأزج ببغداد، قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن إبراهيم بن سنبك البجلي، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن الأشناني، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، قال: حدثنا موسى بن إبراهيم المروزي الأعور، قال: حدثني موسى بن جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقتل ابني الحسين بظهر الكوفة، الويل لقاتله وخاذله وتارك نصرته»)، انظر: الأمالي الخميسيّة، ج1، ص240، رقم الحديث 839.
5. مصدر سنيّ: روى الحافظُ ابن طهمان (ت:168هـ) في كتابه (المشيخة): (عن عبّاد بن إسحاق، عن هاشم بن هاشم، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال: «لا يدخل عليَّ أَحد»، فسمعت صوتاً فدخلت، فإذا عنده حسين بن علي وإذا هو حزين -أو قالت: يبكي- فقلت: ما لك تبكي يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل أن أمتي تقتل هذا بعدي فقلت: ومن يقتله؟ فتناول مدرة، فقال: أهل هذه المدرة تقتله).
قال المحقق الدكتور محمد طاهر مالك: (إسناده حسن، رجاله ثقات، وهاشم بن هاشم هو ابن عتبة الزهري المدني ثقة من رجال الكتب الستة، وعبد الله  بن وهب هو ابن زمعة بن الأسود الكندي، والحديثُ صحيح لشواهده وطرقه الكثيرة)، انظر: مشيخة ابن طهمان، ص55، رقم الحديث3.
ونقلها عنهُ الحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام، ج2، ص365)، وعلّق عليها المحقق شعيب الأرناؤوط في هامشها بقوله: (إسناده حسن، من أجل عبد الله بن وهب بن زمعة فإنَّه صدوق حسن الحديث).
6. مصدر سنيّ: روى ابنُ سعدٍ (ت:230هـ) في طبقاته بإسنادٍ حسنٍ: (وأخبرنا عليُّ بن محمّد، عن حمّاد بن سلمة، عن أبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: كان جبريل عند رسول الله والحسين معي فبكى فتركته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته فبكى فأرسلته. فقال له جبريل: أتحبه؟ قال: نعم. فقال: أما إنَّ أمتك ستقتله).
قال المحقق محمد بن صامل السّلمي: (إسناده حسن)، انظر: الطبقات الكبرى – الطبقة الخامسة من الصحابة، ج١، ص٤٢٨، رقم الحديث ٤١٦.
وكلّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ جزماً، وقد ذكرنا في مدوّنة (وثائق عن حقيقة الوهابيّة) سلسلةً من الروايات التي رواها علماء أهل السنة، وانتخبنا منها مقداراً يسيراً أقرَّ علماؤهم ومحققوهم بصحّته واعتباره، وهذه جملة روابط السلسلة:

ومن الجدير بالإشارة إليه كتابُ (مقتل الإمام الحسين، رواية عن جدِّه) للشيخ قيس العطار، وهو دراسةٌ جامعةٌ لأحاديث الإخبار بشهادة الحسين (صلوات الله عليه) على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) من طرق أهل السنة، فليُراجع فإنّه وافٍ بإطلاع القارئ على كثيرٍ من الطرق؛ فإنّ المقال لا يتّسع لإيراد المطوّلات التي تبيّنُ سعة الرواية وكثرة طرقها المؤديّة إلى الاطمئنان بصدورها.
لتحميل كتاب الشيخ العطّار: اضغط هنا - اضغط هنا.
هذا كلّه فضلاً عمّا رواه الشيعة من طرقهم كالصفّار في (بصائر الدرجات)، والكلينيّ في (الكافي)، وعلي بن بابويه في (الإمامة والتبصرة)، وابن قولويه في (كامل الزيارات)، والنعمانيّ في (الغيبة)، والصدوق في بعض كتبه الحديثيّة، والخزاز القميّ في (الكفاية)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الأمالي) و(الغيبة)، وكلُّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة للجانب الثاني: فإنّ قيمة هذه الأحاديث تتّحدد من خلال بيان العامل الكميّ والعامل الكيفيّ، أما الأوّل فمن الواضح أنّ هذه الأحاديث كثيرةٌ طرقها، متوافرة أسانيدها، وهذا ما يُضعّف احتمال الكذب – لا سيّما إذا لاحظنا العامل الكيفيّ أيضاً-، كما أنها منقولة عن كتبٍ معتبرةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، وإنّ الاستطراد في تتبعها عند الفرق الإسلاميّة خبراً خبراً يستدعي مئات الصفحات، وما ذكرناه هو غيضٌ من فيض.
وأمّا العامل الكيفيّ فيتلخَّص في أنّ هذه الأحاديث لها مزيّة عظيمة وهي أنّها وردت من طرق مذاهب مختلفة (الإماميّة، الزيديّة، أهل السنة)، وقد أقرّوا بصحتها وقبلوها، يُضاف إلى هذا عدم وجود غرضٍ مذهبيّ لأهل السنّة والزيديّة في اختلاق مثل هذه الأخبار، فإنهم لا تعلّق لهم بإسباغ صفاتٍ غيبيّة على أهل البيت (عليهم السلام) ومسيرتهم، وهذا الأمرُ ليس من ملامح هذين المذهبين، وهذا بمجموعه يُضعّف احتمال الكذب فيها، وقد أشار السيّد الصدر (رحمه الله) إلى قيمة هذه النقطة عند حديثه حول العوامل الموضوعية التي ترتبط بالشهادات وتؤثّر في إفادة التواتر لليقين، قال (رحمه الله): (تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية: فإنَّه كلَّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع؛ لأنَّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك للكذب أبعد وأضعف. وقد أدرك القدماء هذا الشرط أيضاً بفطرتهم فاشترط بعضُهم أن يكون الشهود من بلدان عديدة أو من ملل وأديان مختلفة ونحو ذلك، وجوهر النكتة ما أشرنا من أنَّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً)، انظر: بحوث في علم الأصول، ج4، ص333.
وبملاحظة كثرة طرق الرواية، وتعدد رواتها من مذاهب مختلفة، يضعف احتمال الكذب، ولا سيّما إذا انضمّ لذلك ورودها عبر جملةٍ من الأسانيد المسلسلة بالثقات الأجلّاء، فتأمّل.

[2] دلائل الأحداث الغيبية الإعجازيّة الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه).

وأمّا بالنسبة للأمر الثاني الذي يتعلق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة، فنُحيل في المقام إلى دراستين تناولتا جملةً من الروايات الواردة في كتبٍ سُنيّةٍ متقدّمةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، ويردُ في حقّها ما ذكرناه من العامل الكميّ والعامل الكيفيّ باعتبار ورودها من طرق مذهب آخر لا تعلّق به بالإمامة ومسيرها وإسباغ صبغة غيبيّة عليه.
1. كتاب "غضب الله تعالى لمقتل الحسين (عليه السلام) بالأسانيد الجياد"، للشيخ باسم الحليّ، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.
2. بحث موجز بعنوان "رسالة في حال السماء بعد مقتل الحسين (عليه السلام) من طرق أهل السنة للأخ الباحث ناصر الحُسين، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.

ويتلخّص مما تقدّم: أنّ جذور القراءة الغيبيّة لواقعة كربلاء ترجعُ إلى القرون الأولى ولم تبرز في القرن السابع الهجريّ، وتمتازُ هذه الجذور والمستندات بكثرة الطرق عند المذاهب الإسلاميّة، واعتبارها واعتمادها عند علماء كلّ مذهب، وهذا ما يعزّزُ العامل الكميّ والكيفيّ في مقام الاطمئنان بصدور هذه الروايات، وبذلك يتبيّن أنّ دعوى إلصاق مسحة غيبيّة بواقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ تفتقرُ إلى الدليل، فضلاً عن شهادة البراهين الأخرى ببطلانها، وهذا دالٌّ على عبثيّة أصحاب تلك الدعاوى وعدم جدّيتهم في طرح البراهين أمام القُرّاء والاكتفاء بالادّعاء والخطابيّات الإنشائيّة.

الأحد، 6 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

ادّعى ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص9) أنّ السيد ابن طاوس (رحمه الله) قد أحدثَ تغيّراً جوهرياً في فهم فلسفة هذه الواقعة وأحداثها، ثم تساءل قائلاً: (إذا حذفنا فقرة المرحوم ابن طاووس المقلقة من مشهد كربلاء بالكامل فهل ستبقى صورة كربلاء كما هي حالياً في أذهاننا ومنابرنا)، ثم ختم كلامه قائلاً: (إن الجيل الاثني عشري الجديد بحاجة ماسّة إلى دراسة مرحلة ابن طاووس دراسة دقيقة من جميع الجهات والجوانب؛ فإن هذا الأمر سيفتح لهم آفاقاً كثيرةً سعت النخب الدينية لأجيالهم السابقة إلى التعتيم عليها أو تضييقها..)، انظر: كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص10.

وهنا نعرضُ بعض التعليقات والملاحظات:
أولاً: إنّ طبيعة هذا الكلام ترجعُ إلى ما قُلناه في المقالة السابقة من كون جملةٍ واسعةٍ مما أسماه العسرُ "بحوثاً تنويريّة" هي فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة، فهذا الكلام يمكن تلخيصه في سطرٍ واحدٍ وهو: توجيه أصابع الاتهام إلى السيّد ابن طاوس في تحريف واقعة كربلاء ونقلها من صبغتها الواقعيّة إلى صبغة أخرى لا تنسجم مع حقيقتها. وفي الواقع، هذه مجرّد ادّعاءات وفتاوى يستسهل صاحبُها إطلاقها دون أن يكون له جهدٌ بحثيٌّ استدلاليٌّ يُذكر في بيان صحّة الادّعاء بالأدلّة والمستندات.
والحاصل: إنّ القارئ لملفّه لا زال يدور في فَلَك: «خذوها مِنّي على نحو الفَتْوى»!
ثانياً: إنّ قراءة واقعة كربلاء تستندُ إلى جملةٍ من الأصول الثابتة، وهذه الأصول التي يعتمدُ عليها الشيعة الإمامية في تحليل الواقعة معروفةٌ في كتب الحديث والتاريخ والمقاتل، وبناءً على ذلك يجب أن تكون عُهدة الجواب على نفس المُدّعي، فنقول: سنسلّم جدلاً ونقبل بحذف تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله) من قراءة واقعة كربلاء، فما الذي سيتغيّر فيها؟
وهنا ينبغي الالتفات إلى أمرٍ مهمٍ في تحقيق المطلب: من الممكن جدّاً أن يكون السيّد قد أوردَ في بعض كتبه روايةً محلاً للنقاش أو تأمّل فيها العلماء، إلا أنّ الإشارة إلى هذه الجزئيات لا يحقّق المطلب، وإنما الكلام فيما يُدّعى أنّ السيّد أصّله ورسّخه في تراثه بنحوٍ يُحدِثُ تحوّلاً ملحوظاً في قراءة كربلاء وطبيعة التعاطي مع أحداثها، وأما الإيراد على بعض الروايات المُناقشة فهذا حاصلٌ مع السيّد وغيره، ويكاد لا يخلو منه كتابٌ حديثيٌّ أو تاريخيٌّ، ولذلك ينبغي صرف النظر إلى ما تمّ ترسيخه وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» - كذا عبّر العسر - في قراءة الواقعة؟ هذا جوابه ينبغي أن يكون بعُهدة المُدّعي بنحوٍ استدلاليّ لا بنحو «الفتوى الجاهزة».
ثالثاً: أدرج "العسر" اتّهامه للسيد ابن طاوس بإحداث «تحوّلات جوهريّة» في قراءة واقعة كربلاء في سياق المقارنة مع ما نقله السيد المرتضى في كتابه "تنزيه الأنبياء" حيث ذكر السيّدُ روايةً حاصلها أنّ سيد الشهداء (عليه السلام) عندما حوصر عرض على القوم أن يرجع إلى المدينة أو يضع يده في يد يزيد أو يسير إلى الثغور، فرُفض طلبه، ولذلك توجّه إلى القتال مؤثراً إياه على ذُلّ الاستسلام، ثم أدرج اتهامه للسيد ابن طاوس كما أسلفنا، وهنا ينبغي أن تُطرح عدّة تساؤلات منهجيّة، ومنها: لماذا اختزل العسرُ القراءة عند الطائفة الإمامية الاثني عشريّة فيما نقلَه السيّد المرتضى، لا سيّما وأننا نظفر بمنقولاتٍ أخرى لأستاذه المفيد وتلميذه الطوسي تتماشى مع الطرح الآخر والذي تبنّاه السيد ابن طاوس أيضاً؟ بل إننا نلاحِظُ أنّ تلميذَ المرتضى وهو شيخ الطائفةِ الطوسيّ يتحفّظُ على ما اختاره أستاذه ولا يوافقه عليه، ولك أن تراجع ما قاله في ذلك (انظر: تلخيص الشافي، ج4، ص189-190).
وهنا يحقّ للمنصف أن يسأل: هل متقدّمو الإمامية مختَزلون في فقرةٍ من كتابٍ للمرتضى، وأيّ خلافٍ معها سيكون «تحولاً جوهريّاً» في الطائفة الشيعيّة؟
وأمّا بالنسبة للنصوص الأخرى التي سبقت زمان السيّد ابن طاوس وكانت في زمن المرتضى، ويمكن من خلالها تدعيم ما ذهب إليه السيّد ابن طاوس، فمنها:
ما قاله الشيخ المفيد في إرشاده: (فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتابَ وجهدا به في الرجوع فقال: إنّي رأيتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في المنام وأمرني بما أنا ماضٍ له، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثتُ بها أحداً، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتى ألقى ربّي)، انظر: الإرشاد، ج2، ص69.
وقال في موضعٍ آخر: (فقال له: يا عبَد الله، ليس يخفى عليَّ الرأيُ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره، ثم قال عليه السلام: والله لا يَدَعُونِي حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي..إلخ)، انظر: الإرشاد، ج2، ص76.
وقال أيضاً: (فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُروك إلّا ما تُحب. فقال له الحُسين: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفِرّ فرار العبيد)، انظر: الإرشاد، ج2، ص98.
وهنا، فليتساءل القارئ: هل يجوز حقّاً اختزال قراءة متقدّمي الإمامية في القرن الثالث والرابع في روايةٍ نقلها السيّد المرتضى ثم اتّهام السيد ابن طاوس بإحداث تغيير جوهريّ قلبَ حقيقتها إلى مشهدٍ آخر؟ أم أنّ المسلك الذي سلكه السيد ابن طاوس له شواهد متوافرة في كتب المتقدّمين وأنّ اتهامه نابع عن جهلٍ وقصورٍ في التتبع والقدرة على النظر والتحليل؟!
رابعاً: حيثُ إنّ الملف التنويريّ الذي طرحه العسر هو ملفُّ فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة لم يُشر بتفصيلٍ وتحليلٍ إلى الجوانب التي تمّ إحداث التغيير والتحوّل الجوهريّ المزعوم فيها. وفي المقام، سنفترض أنّه يشيرُ إلى تحليل السياق التاريخيّ لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام) بملاحظة الجوانب الغيبيّة التي يراها البعضُ غلوّاً أو تحريفاً لفهم المسيرة الحسينية - ويُساعدنا على هذا الافتراض ما قاله في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) أن واقعة كربلاء أضيفت إليها مسحة غيبيّة مُفرطة في القرن السابع الهجريّ -.
وبعبارةٍ موجزةٍ: دعوى العسر في حقّ السيّد ابن طاوس (رحمه الله) أنّه تسبّبَ في إدخال تحليل واقعة كربلاء إلى القراءة الغيبيّة المُفرطة، وأنّنا لو حذفنا فقرة ابن طاوس فإننا سوف نلمس فرقاً كبيراً بين ما قدّمه وبين ما قدّمه غيرُه من العلماء المتقدّمين.
وإذا كان العسر يدّعي ذلك فسوف نفترض أنّنا غضضنا النظر عن تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله)، فهل سيتغيّر شيءٌ بالنسبة لهذه المسألة؟ وهل سيعجزُ الباحث عن تدعيم قراءة السيّد ابن طاوس بما ذكره بعض المتقدمين؟! وكأنّ المسكين غابَ عنه الحضور المكثّف لروايات ثقات الطائفة وأجلّائها الكلينيّ وابن قولويه والصدوق وغيرهم في رفد وتعزيز ما أورده السيّد ابن طاوس ولو في الجملة؟!
خامساً: إنّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف» للسيّد ابن طاوس يمثّل عمدة ما طرحه في خصوص قضيّة سيد الشهداء (عليه السلام) وإن كان قد تعرّض لبعض الجهات في بعض كتبه الأخرى كـ«الإقبال» و«مصباح الزائر»، وإذا لاحظنا الكتاب الأوّل سوف نجدُ أنّ كثيراً مما استندَ إليه السيّد في ذكر الأحداث التاريخيّة له شواهده في كُتبٍ تقدّمت عليه زماناً، وبعضها تشتركُ في روايته المصادر الإماميّة والسنيِّة والزيديّة، فما الشيء الجديد الذي برز على يديّ السيد ابن طاوس وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» في تحليل السيرة الحسينيّة؟
ومن هنا يتبيّن لك أخي القارئ: أنّ ما طُرِحَ من كلامٍ إنشائيٍّ لا يعدو عن كونه خيالاتٍ وأوهاماً تكشفُ عن الجهل العظيم بحقيقة التراث الإماميّ أو تجاهُلٍ لخداع القرّاء، وإذا شئتَ أن تُقارن بين القراءة السطحيّة العابرة التي تعتمدُ نظام الفتوى الجاهزة والنتيجة المسبقة وبين القراءة التي تستندُ إلى الدراسة والنّظر، فانظر إلى ما قاله العسر في صفحتين خاليتين من الدليل والبرهان، ثم لاحظ ما أنتجهُ بعض الباحثين فيما يخصُّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف»، فقد صدرَ في سنة 1395 هـ.ش. – أي قبل أربع سنوات – كتابٌ بعنوان: «تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف» للباحث مصطفى صادقي كاشاني، وهو دراسةٌ مفصّلةٌ حول الكتاب ومنهج تأليفه ومصادره تقع في مُجلّد مؤلّف من 300 صفحة تقريباً، بالإضافة إلى ضبط مَتْنه على 57 نسخةٍ خطيّةٍ، ونحن هنا لسنا بصدد الموافقة على ما ورد في هذه الدراسة حرفيّاً، إلّا أنّه ينبغي التوجّه إلى هذا الجهد العلميّ لمعرفة طبيعة عمل السيّد ابن طاوس (رحمه الله) وبيان المزايا والمؤاخذات على كتابه في إطار التقييم العلميّ لأيّ متنٍ تراثيّ، وهذه القضيّة لا حرجَ فيها؛ إذ إنّ باب البحث والنقد مفتوحٌ، وله قيمتُه عند العقلاء ومحبّي المعرفة، أمّا إطلاق الدعاوى الفارغة فهذا لا علاقة له بالعلم والتدقيق، وليس من شأن أهل التحقيق، وإنّما يمارسُه بعض ذوي التجارب الفاشلة في تاريخهم الحوزويّ.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ الباحث كاشاني قد اختار أنّ كتاب السيد ابن طاوس متأثر بشكل غير مباشر – أي عبر النقل بواسطة – بكتابَي "الفتوح" لابن أعثم، و"المقتل" للخوارزميّ، انظر: تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف، ص279.
ويبقى السؤال الذي ينبغي طرحه: ما هو التحوّل الذي وقع على يدي ابن طاوس وهو راجعٌ في تقرير مطالب كتابه إلى كتب متقدّمة عليه زماناً ورواياتٍ يمكن أن يؤيد كثيرٌ منها بما أورده المتقدمون في مصنّفاتهم؟! وهل حقّاً إنّ المسحة الغيبية وردت على قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ أم أنّ جذورها الروائيّة والكلاميّة موجودة في كتب المتقدّمين، -وبذلك يتبيّن أن ابن طاوس بريء العهدة من تهمة حرف مسار القراءة الشيعيّة لواقعة كربلاء-؟
إلى هنا ينتهي ما أردنا بيانه بإيجازٍ واختصارٍ، وسيأتي في المقالة الآتية توسعةٌ للبحث في الجنبة الغيبية في واقعة كربلاء والذي سيتم من خلاله تقييم دعوى بروز التحوّلات في قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ، والحمد لله رب العالمين.

مدوّنة "إجابات علميّة".

الخميس، 3 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (١): سلسلة إجابات علميّة على ملف «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (١): سلسلة إجابات علميّة على ملف «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، الأئمة المعصومين؛ أما بعد:-

تُقدّم مدوّنة «إجابات علميّة» للإخوة القراء سلسلةً جديدةً بعنوان: «كربلاء كما هي» وذلك تعليقاً على بعض ما ورد من مُغالطاتٍ في ملفٍ نشره ميثاق العسر أسماه «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»، وهذه السلسلة هي مجموعة مقالات دوّنها بعض طلاب العلم لبيان تهافت تلك القصاصات التي جمعها العسر في ذلك الملف واعتبرها "كتاباً" على طريق "التنوير"!
وقبل الشروع بهذه السلسلة، ينبغي أن نشيرَ إلى جملةٍ من الملاحظات الكليّة حول هذا الملف، وطبيعة المغالطات والحِيل المستعملة فيه، وكيفيّة تناوله في المقالات الآتية، وغير ذلك:

الملاحظة الأولى: إنّ منهج الكاتب قائمٌ في جملةٍ من الموارد على المصادرات أو الفتاوى المُهيّأة والنتائج المحسومة، حيث لم يرفد كتابته بجنبة استدلاليّة معمّقة، بل اعتمد على طريقة الكتابة الصحفيّة والأسلوب الإنشائي في صفّ الكلام، ومن الواضح أنّ الخطابيّات لا تقدّم ولا تؤخّر لمن يبتغي الدليل والبرهان، فعلى سبيل المثال: ماذا يعني أن ينسخ ويلصق في ملفّه روايةً نقلها السيد المرتضى في كتاب (تنزيه الأنبياء) ثم يكتب قائلاً: "أنا واثقٌ كل الوثوق إنّك لا تقبل بهذه القراءة التي سجّلها السيد المرتضى في السطور أعلاه؛ لأنّك لا تريد أن تخلع نظارتك المذهبيّة المنبريّة، وتراها تصطدم مع الصورة النمطيّة الكلاميّة المفرطة المرسومة في ذهنك الشيعي عن الإمام الحسين وتحركاته"! (انظر: كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص10).
ويا للعجب! السيد المرتضى ذكرَ روايةً، سرعان ما انطلق العسر إلى توظيفها، من دون أن يُتعب نفسه، فالفتوى الجاهزة والنتيجة المسبقة أقلّ عناءً، والحقّ والإنصاف أننا إذا كنا نبتغي المعرفة الصحيحة حقاً، فيجب أن تمرّ الرواية عبر آليات التحقيق، حيث يلزم البحث حول هذه الرواية من جهة الوثوق بصدورها، ومن حيث انسجامها مع السياق التاريخي الموثوق الوارد من المصادر المعتبرة، وخلوّها عن المُعارض، و..وإلخ، كل هذا قفز عنه العسر، وتجاهلَه، وانطلق نحو الوعظ الخطابي: أيها الشيعيّ! أنت لا تقبل هذه الرواية لأنّك لا تريد أن تخلع نظارتك المذهبية؟! ما هذه التفاهة؟! هل هذا هو التنوير حقّاً؟! نسخُ رواية ثم توظيفها مباشرةً دون بيان أي مقدمات تتوسط هذا التوظيف؟ فلنفترض أنني لا أقبل بهذه الرواية التي نقلها السيد المرتضى، ولديّ مبرراتي الموضوعية وأدلّتي العلميّة التي ساقتني إلى القول بضعف الوثوق بها؛ اعتماداً على أدلةٍ وبراهين علميّة مُحكمة، هل سيكون جزاء بحثي ونظري أن أُتّهم بأنني متعصّب لمذهبي كيفما كان؟! أليست هذه محاولة لترهيب نفوس القراء وتنفيرهم من تلك النتيجة بمثل هذه الدعاية الفارغة؟! أو لنفرض أنني أقبلُ الرواية التي ذكرها السيّد المرتضى، ولكني قمت بقراءتها بنحوٍ مغايرٍ، فما ربطُ ذلك بالنظّارة المذهبية؟! 
ولهذا نظائر أخرى، فما كتبه تحت عنوان "كربلاء وصورتها النمطيّة، ص7"، "ما الذي استفدناه ونستفيده من كربلاء، ص11"، "المقولات الكلامية وذبحها لمظلومية الحسين، ص22"، "تأملات في اندراج اللطم المعاصر تحت عنوان الجزع المأثور، ص26"، "تبريرات ما بعد الوقوع، ص43"، "الوجه التوحيدي المغيّب للأئمة، ص63"، "محرمات الحرم والإحرام في زيارة الأربعين، ص67"، كل هذه وغيرها مما لا نذكره تجنّباً للإطالة ليس إلّا كلاماً إنشائيّاً ومصادرات بنتائج جاهزة. ولعلّ ما يدفعُه لممارسة مثل هذا الأسلوب هو اعتماده على أنّه يتكلّم بلسان شيعيّ من الدّاخل، فيظنّ أن ذلك لافتٌ للنظر وله قيمة عند الناس باعتبار سابقته الحوزويّة - رغم عللها وفشلها -، مع أنّ كل ما تقدّم منه مبنيّ على إنشاءٍ خَطابيّ، فضلاً عما في نقده مما لا يمتّ لمباني التشيّع بصلة، بل أحياناً لا يمتّ للإسلام بصلة، فبعض إشكالاته لا يقدرُ الوهابيّة أنفسهم على التفوّه بها، وإنما يقدرُ على التفوه بها أصحاب المنهج الماديّ الذي لا يؤمن بما وراء الطبيعة.
الملاحظة الثانية: لقد صنّف ميثاق العسر "كتابه" على أساس أنّه قراءة لكربلاء بنظرة لا مذهبيّة، وأنّه "بحوث تنويريّة" في حين أننا لا ندري أين هي البحوث؟! وهل كل مَنْ نسخ منشوراته الفيسبوكيّة ولصقها في ملف وطبعه وأسماه "كتاباً" جازَ له أن يسمّيها "بحوث"؟! لعلّ الرجل بما له من سابقةٍ حوزويّة فاشلة وجهل أكاديميّ قد نسي ضابطة "البحوث"، وإذا كانت هذه المنشورات الفيسبوكيّة تسمى "بحوثاً"، فما أكثر الباحثين! تخيّل أنّك تقوم بجمع بعض الاقتباسات من عدة كتب ثم تعلق عليها بأسلوب المصادرة والنتيجة المسبقة، ثم تقدّم ذلك للقراء على أنّه "بحوث"! ألا يعي البعض ما في هذا من استخفافٍ بالعلم والقراء؟ لعلّ مكوثه في "لندن" قد أنساه الصبغة الأكاديمية أو الحوزويّة للبحث العلمي، فتردّى حتى صارت مجموعة منشورات خطابيّة لا تؤثّر إلا في بعض الضعفاء "بحوثاً تنويريّة"! 
الملاحظة الثالثة: إنّ تصنيف الكتاب بأنه "بحوث تنويريّة" لقراءة مغايرة لواقعة كربلاء يوحي للقارئ بأنّ هذه "البحوث" سوف تتناول لبّ الواقعة وأصولها وما يمسّ عمق الإيمان الشيعيّ بها، إلا أنّ شغف العسر بتجميع منشوراته الفيسبوكيّة قد أنساه ذلك، فأدخل فيه ما لا يتعلق بالنظرة إلى كربلاء، ولا يمسّ بها أصلاً ولا فرعاً، فلا ندري ماذا سيتغير – على المستوى المعرفي أو التنويريّ – إذا قال لي ميثاق العسر أنّ بيتين من الشعر ليسا لفلانٍ وإنما لغيره أو أنّ عبارة لشريعتي تمّت ترجمتها بشكل خاطئ. وهكذا أخذت مجموعة من المنشورات مساحةً من "بحوثه التنويريّة العميقة" من دون أن يكون لها أيّ أثرٍ معرفيّ في قراءة كربلاء وطبيعة النظر إليها، ومن هذه النماذج: "ملاحظات المطهّري على كتاب الشهيد الخالد، ص23"، "تأملات في نسبة قصيدة كربلاء للشريف الرضي، ص36"، "علي شريعتي وظلم الترجمة، ص50".
وبناءً على ما تقدّم: لن تتعرض سلسلة المقالات لهذه المنشورات ونظائرها، فهي لا تقدّم ولا تؤخّر بالنسبة إلى قراءة واقعة كربلاء، وإنما سنتعرّض لبعض النقاط التي تحتاج إلى إيضاحٍ لوضع الأمور في سياقها الصحيح وإخراجها من فضاء المغالطات والتهويلات السخيفة.
الملاحظة الرابعة: إنّ من يعرفُ "ميثاق العسر" يعلمُ أنّ تجربته الحوزويّة السابقة المثقلة بالفشل والخيبات المتوالية لها أثرٌ كبيرٌ في اندفاعه نحو الكتابة للإساءة إلى المذهب الشيعيّ والحوزة العلميّة خصوصاً، ولذلك نرى في ملفّه "التنويري" الذي قام بتجميعه جملةً من العبارات التي تحملُ انفعالاً وتهويلاً وتضخيماً لواقع الأمر، ولا سيّما في المواضع التي تتعلق بالحوزة العلميّة، ومن ذلك قوله (ص10): "فإنّ هذا الأمر سيفتحُ لهم آفاقاً كثيرةً سعت النخب الدينية لأجيالهم السابقة إلى التعتيم عليها.."، وهذا طبعاً من المضحكات المُبكيات، فإنّ ميثاق العسر لما كان "نخبةً دينيّة" لم يؤثر عنه في تاريخه وسجلّه الحوزويّ أيّ سعيٍ في الأمرِ الذي يُطالب به، بل كان موظّفاً في إدارة مكتب أستاذه الحيدري يمارس الكذب والتزوير مراراً، وقد اعترف بنفسه أنّه قام بتسويق مرجعيّة أستاذه رغم علمه بعدم أهليّته من جهة الفقاهة (راجع ما قاله هنا) فمن الذي كان يمارس التعتيم على عامّة الناس؟! وفي ذلك السياق أيضاً قام بتزوير بعض تسجيلات أستاذه ليُخلّصه من تبعاتِ بعض العبارات التي تفوّه بها وسببت له حرجاً في الوسط الحوزويّ، (راجع الموضوع بتمامه هنا)، فمن كان له مثل هذا التاريخ من تسويق رجلٍ كان يقطع بعدم فقاهته، وممارسة التزوير وخديعة عوام الناس ثم يتّهم غيره بذلك فهنا يصدقُ عليه المثل القائل: "رمتني بدائها وانسلّت"، فعلى الأقل من كذبَ وزوّر وخدعَ النّاس عليه أن لا يتّهم غيرَه بما فيه!
ومن ذلك قوله: "هل عمدتم في داخل الأروقة الحوزويّة إلى التفكير الجادّ في كيفيّة الحفاظ على دين الناس وإيمانهم، أم إنّ شغلكم الشاغل في هذه الأيام يتمحض في الطبخ والتحضير لخليفة السيد السيستاني... لا نصدّق بحرصكم وخوفكم على دينِ الناس إلا بعد أن تسحقوا على الأنا الحوزوية المستفحلة في نفوسكم بمختلف الصياغات والوصايات"، وفي الواقع لا نعلم هل فعلَ العسر شيئاً مما يقوله خلال مسيرته الحوزويّة؟! ما نعرفه أنّه كان بوقاً في مكتب أستاذه الحيدريّ، يطبّل له، يزوّق مرجعيته، يجمع المال، ويبني دنياه، ولمّا اختلف معه حول الأمور المالية وغيرها قام بأخذ نصيبه من المال، وانصرف إلى لندن للتشكيك بالتشيع، ومن تكون له مثل هذه السيرة كيف له أن يتصنّع صفة الواعظ المُشفق إلا أن يكون ذئباً؟!
ومع ذلك للمتابع أن يتساءل: ما هو "دين الناس" أصلاً الذي تُظهر نفسك بمظهر المشفق عليه وتريد حفظه؟ فأنتَ لم تُبقِ قولاً بالإمامة ولا أبقيتَ حرمةً للقرآن والنبوّة، وقد انجررتَ إلى مقولاتٍ لا تبقي للتقيد بالتعاليم الدينيّة قيمةً، فما هو الدين الذي تدعو للحفاظ عليه؟! لا سيّما وأنك مذ شرعت بالكتابة، وعشرات المتابعين يطالبونك بتقديم البديل الذي ينبغي الاعتقاد والتديُّن به وأنتَ تتجاهلهم. مع أنّ التفكير الماديّ الذي يلائم كل شيءٍ خلا الأديان قد أصبح جلياً في كلماتك.. إذن: لا معنى لمثل هذه المطالبات منه، إلّا أن مرجع ذلك إلى إرادته التشنيع على العلماء، وإلا فهو لا تعلّق له بالتشيّع ومصالحه من قريب أو بعيد.
ومن ذلك أيضاً: تساؤله في (ص68): "لماذا لا يربي المراجع والخطباء الحمام الراعبيّة"، وذلك بعد أن ذكرَ روايات تدل على لعن الحمام الراعبية قتلةَ الحسين عليه السلام والحثّ على اتّخاذها في البيوت.. ولا أدري هل قام العسر بتفتيش بيوت المراجع والخطباء، أم أنّه يريد أن يؤاخذهم على كل صغيرة وكبيرة؟ وأيُّ شيءٍ هذا من التنوير في قراءة كربلاء؟! هذا ونظائره من السّخافات الطفوليّة كفيلٌ بأن يصوّر للقارئ المستوى أو الأفق الذي يفكّر به "العسر"، فهو أسيرٌ لأزمته النفسيّة الحادّة تجاه الحوزة وتجربته السابقة فيها، وكلما أراد أن يحلّق بعيداً بقي مكبلاً بتلك العُقَد النفسيّة العميقة التي لا تكاد تُفارقه! 
إننا نُدرك عمق هذه الأزمة النفسيّة التي سببتها انتكاسةُ تجربته الحوزويّة الفاشلة مع أستاذه "الحيدري"، ولكن من الواضح أنّ على من يريد طرح "بحوث تنويريّة" أن لا يسأل المراجع والخطباء عن تربية الحمام والدجاج والبطّ، وعليه أن ينشغل بما يتعلّق بأصول القضية التي يبحث فيها وما يمسّ جوهرها، أما هذه التفاهات فينبغي أن تُحسب ضمن في باب الفُكاهة!

"مدوّنة: إجابات علميّة".