الأحد، 6 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

ادّعى ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص9) أنّ السيد ابن طاوس (رحمه الله) قد أحدثَ تغيّراً جوهرياً في فهم فلسفة هذه الواقعة وأحداثها، ثم تساءل قائلاً: (إذا حذفنا فقرة المرحوم ابن طاووس المقلقة من مشهد كربلاء بالكامل فهل ستبقى صورة كربلاء كما هي حالياً في أذهاننا ومنابرنا)، ثم ختم كلامه قائلاً: (إن الجيل الاثني عشري الجديد بحاجة ماسّة إلى دراسة مرحلة ابن طاووس دراسة دقيقة من جميع الجهات والجوانب؛ فإن هذا الأمر سيفتح لهم آفاقاً كثيرةً سعت النخب الدينية لأجيالهم السابقة إلى التعتيم عليها أو تضييقها..)، انظر: كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص10.

وهنا نعرضُ بعض التعليقات والملاحظات:
أولاً: إنّ طبيعة هذا الكلام ترجعُ إلى ما قُلناه في المقالة السابقة من كون جملةٍ واسعةٍ مما أسماه العسرُ "بحوثاً تنويريّة" هي فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة، فهذا الكلام يمكن تلخيصه في سطرٍ واحدٍ وهو: توجيه أصابع الاتهام إلى السيّد ابن طاوس في تحريف واقعة كربلاء ونقلها من صبغتها الواقعيّة إلى صبغة أخرى لا تنسجم مع حقيقتها. وفي الواقع، هذه مجرّد ادّعاءات وفتاوى يستسهل صاحبُها إطلاقها دون أن يكون له جهدٌ بحثيٌّ استدلاليٌّ يُذكر في بيان صحّة الادّعاء بالأدلّة والمستندات.
والحاصل: إنّ القارئ لملفّه لا زال يدور في فَلَك: «خذوها مِنّي على نحو الفَتْوى»!
ثانياً: إنّ قراءة واقعة كربلاء تستندُ إلى جملةٍ من الأصول الثابتة، وهذه الأصول التي يعتمدُ عليها الشيعة الإمامية في تحليل الواقعة معروفةٌ في كتب الحديث والتاريخ والمقاتل، وبناءً على ذلك يجب أن تكون عُهدة الجواب على نفس المُدّعي، فنقول: سنسلّم جدلاً ونقبل بحذف تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله) من قراءة واقعة كربلاء، فما الذي سيتغيّر فيها؟
وهنا ينبغي الالتفات إلى أمرٍ مهمٍ في تحقيق المطلب: من الممكن جدّاً أن يكون السيّد قد أوردَ في بعض كتبه روايةً محلاً للنقاش أو تأمّل فيها العلماء، إلا أنّ الإشارة إلى هذه الجزئيات لا يحقّق المطلب، وإنما الكلام فيما يُدّعى أنّ السيّد أصّله ورسّخه في تراثه بنحوٍ يُحدِثُ تحوّلاً ملحوظاً في قراءة كربلاء وطبيعة التعاطي مع أحداثها، وأما الإيراد على بعض الروايات المُناقشة فهذا حاصلٌ مع السيّد وغيره، ويكاد لا يخلو منه كتابٌ حديثيٌّ أو تاريخيٌّ، ولذلك ينبغي صرف النظر إلى ما تمّ ترسيخه وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» - كذا عبّر العسر - في قراءة الواقعة؟ هذا جوابه ينبغي أن يكون بعُهدة المُدّعي بنحوٍ استدلاليّ لا بنحو «الفتوى الجاهزة».
ثالثاً: أدرج "العسر" اتّهامه للسيد ابن طاوس بإحداث «تحوّلات جوهريّة» في قراءة واقعة كربلاء في سياق المقارنة مع ما نقله السيد المرتضى في كتابه "تنزيه الأنبياء" حيث ذكر السيّدُ روايةً حاصلها أنّ سيد الشهداء (عليه السلام) عندما حوصر عرض على القوم أن يرجع إلى المدينة أو يضع يده في يد يزيد أو يسير إلى الثغور، فرُفض طلبه، ولذلك توجّه إلى القتال مؤثراً إياه على ذُلّ الاستسلام، ثم أدرج اتهامه للسيد ابن طاوس كما أسلفنا، وهنا ينبغي أن تُطرح عدّة تساؤلات منهجيّة، ومنها: لماذا اختزل العسرُ القراءة عند الطائفة الإمامية الاثني عشريّة فيما نقلَه السيّد المرتضى، لا سيّما وأننا نظفر بمنقولاتٍ أخرى لأستاذه المفيد وتلميذه الطوسي تتماشى مع الطرح الآخر والذي تبنّاه السيد ابن طاوس أيضاً؟ بل إننا نلاحِظُ أنّ تلميذَ المرتضى وهو شيخ الطائفةِ الطوسيّ يتحفّظُ على ما اختاره أستاذه ولا يوافقه عليه، ولك أن تراجع ما قاله في ذلك (انظر: تلخيص الشافي، ج4، ص189-190).
وهنا يحقّ للمنصف أن يسأل: هل متقدّمو الإمامية مختَزلون في فقرةٍ من كتابٍ للمرتضى، وأيّ خلافٍ معها سيكون «تحولاً جوهريّاً» في الطائفة الشيعيّة؟
وأمّا بالنسبة للنصوص الأخرى التي سبقت زمان السيّد ابن طاوس وكانت في زمن المرتضى، ويمكن من خلالها تدعيم ما ذهب إليه السيّد ابن طاوس، فمنها:
ما قاله الشيخ المفيد في إرشاده: (فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتابَ وجهدا به في الرجوع فقال: إنّي رأيتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في المنام وأمرني بما أنا ماضٍ له، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثتُ بها أحداً، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتى ألقى ربّي)، انظر: الإرشاد، ج2، ص69.
وقال في موضعٍ آخر: (فقال له: يا عبَد الله، ليس يخفى عليَّ الرأيُ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره، ثم قال عليه السلام: والله لا يَدَعُونِي حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي..إلخ)، انظر: الإرشاد، ج2، ص76.
وقال أيضاً: (فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُروك إلّا ما تُحب. فقال له الحُسين: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفِرّ فرار العبيد)، انظر: الإرشاد، ج2، ص98.
وهنا، فليتساءل القارئ: هل يجوز حقّاً اختزال قراءة متقدّمي الإمامية في القرن الثالث والرابع في روايةٍ نقلها السيّد المرتضى ثم اتّهام السيد ابن طاوس بإحداث تغيير جوهريّ قلبَ حقيقتها إلى مشهدٍ آخر؟ أم أنّ المسلك الذي سلكه السيد ابن طاوس له شواهد متوافرة في كتب المتقدّمين وأنّ اتهامه نابع عن جهلٍ وقصورٍ في التتبع والقدرة على النظر والتحليل؟!
رابعاً: حيثُ إنّ الملف التنويريّ الذي طرحه العسر هو ملفُّ فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة لم يُشر بتفصيلٍ وتحليلٍ إلى الجوانب التي تمّ إحداث التغيير والتحوّل الجوهريّ المزعوم فيها. وفي المقام، سنفترض أنّه يشيرُ إلى تحليل السياق التاريخيّ لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام) بملاحظة الجوانب الغيبيّة التي يراها البعضُ غلوّاً أو تحريفاً لفهم المسيرة الحسينية - ويُساعدنا على هذا الافتراض ما قاله في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) أن واقعة كربلاء أضيفت إليها مسحة غيبيّة مُفرطة في القرن السابع الهجريّ -.
وبعبارةٍ موجزةٍ: دعوى العسر في حقّ السيّد ابن طاوس (رحمه الله) أنّه تسبّبَ في إدخال تحليل واقعة كربلاء إلى القراءة الغيبيّة المُفرطة، وأنّنا لو حذفنا فقرة ابن طاوس فإننا سوف نلمس فرقاً كبيراً بين ما قدّمه وبين ما قدّمه غيرُه من العلماء المتقدّمين.
وإذا كان العسر يدّعي ذلك فسوف نفترض أنّنا غضضنا النظر عن تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله)، فهل سيتغيّر شيءٌ بالنسبة لهذه المسألة؟ وهل سيعجزُ الباحث عن تدعيم قراءة السيّد ابن طاوس بما ذكره بعض المتقدمين؟! وكأنّ المسكين غابَ عنه الحضور المكثّف لروايات ثقات الطائفة وأجلّائها الكلينيّ وابن قولويه والصدوق وغيرهم في رفد وتعزيز ما أورده السيّد ابن طاوس ولو في الجملة؟!
خامساً: إنّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف» للسيّد ابن طاوس يمثّل عمدة ما طرحه في خصوص قضيّة سيد الشهداء (عليه السلام) وإن كان قد تعرّض لبعض الجهات في بعض كتبه الأخرى كـ«الإقبال» و«مصباح الزائر»، وإذا لاحظنا الكتاب الأوّل سوف نجدُ أنّ كثيراً مما استندَ إليه السيّد في ذكر الأحداث التاريخيّة له شواهده في كُتبٍ تقدّمت عليه زماناً، وبعضها تشتركُ في روايته المصادر الإماميّة والسنيِّة والزيديّة، فما الشيء الجديد الذي برز على يديّ السيد ابن طاوس وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» في تحليل السيرة الحسينيّة؟
ومن هنا يتبيّن لك أخي القارئ: أنّ ما طُرِحَ من كلامٍ إنشائيٍّ لا يعدو عن كونه خيالاتٍ وأوهاماً تكشفُ عن الجهل العظيم بحقيقة التراث الإماميّ أو تجاهُلٍ لخداع القرّاء، وإذا شئتَ أن تُقارن بين القراءة السطحيّة العابرة التي تعتمدُ نظام الفتوى الجاهزة والنتيجة المسبقة وبين القراءة التي تستندُ إلى الدراسة والنّظر، فانظر إلى ما قاله العسر في صفحتين خاليتين من الدليل والبرهان، ثم لاحظ ما أنتجهُ بعض الباحثين فيما يخصُّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف»، فقد صدرَ في سنة 1395 هـ.ش. – أي قبل أربع سنوات – كتابٌ بعنوان: «تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف» للباحث مصطفى صادقي كاشاني، وهو دراسةٌ مفصّلةٌ حول الكتاب ومنهج تأليفه ومصادره تقع في مُجلّد مؤلّف من 300 صفحة تقريباً، بالإضافة إلى ضبط مَتْنه على 57 نسخةٍ خطيّةٍ، ونحن هنا لسنا بصدد الموافقة على ما ورد في هذه الدراسة حرفيّاً، إلّا أنّه ينبغي التوجّه إلى هذا الجهد العلميّ لمعرفة طبيعة عمل السيّد ابن طاوس (رحمه الله) وبيان المزايا والمؤاخذات على كتابه في إطار التقييم العلميّ لأيّ متنٍ تراثيّ، وهذه القضيّة لا حرجَ فيها؛ إذ إنّ باب البحث والنقد مفتوحٌ، وله قيمتُه عند العقلاء ومحبّي المعرفة، أمّا إطلاق الدعاوى الفارغة فهذا لا علاقة له بالعلم والتدقيق، وليس من شأن أهل التحقيق، وإنّما يمارسُه بعض ذوي التجارب الفاشلة في تاريخهم الحوزويّ.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ الباحث كاشاني قد اختار أنّ كتاب السيد ابن طاوس متأثر بشكل غير مباشر – أي عبر النقل بواسطة – بكتابَي "الفتوح" لابن أعثم، و"المقتل" للخوارزميّ، انظر: تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف، ص279.
ويبقى السؤال الذي ينبغي طرحه: ما هو التحوّل الذي وقع على يدي ابن طاوس وهو راجعٌ في تقرير مطالب كتابه إلى كتب متقدّمة عليه زماناً ورواياتٍ يمكن أن يؤيد كثيرٌ منها بما أورده المتقدمون في مصنّفاتهم؟! وهل حقّاً إنّ المسحة الغيبية وردت على قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ أم أنّ جذورها الروائيّة والكلاميّة موجودة في كتب المتقدّمين، -وبذلك يتبيّن أن ابن طاوس بريء العهدة من تهمة حرف مسار القراءة الشيعيّة لواقعة كربلاء-؟
إلى هنا ينتهي ما أردنا بيانه بإيجازٍ واختصارٍ، وسيأتي في المقالة الآتية توسعةٌ للبحث في الجنبة الغيبية في واقعة كربلاء والذي سيتم من خلاله تقييم دعوى بروز التحوّلات في قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ، والحمد لله رب العالمين.

مدوّنة "إجابات علميّة".