الخميس، 26 نوفمبر 2020

دعاء زمن الغيبة

بسم الله الرحمن الرحيم
دعاء زمن الغيبة

- لا يخفى أنّ الدعاء لصاحب الزّمان (عجّل الله فرجه الشريف) يبني علاقةً روحيّة بين العبد ومولاه، وارتباطاً عميقاً متجذّراً في نفس الإنسان المؤمن، حيث يستشعر دوماً معيّة عناية الإمام ولطفه به، وهذا الارتباط بدايةٌ للورود في وادي التوفيقات الإلهيّة، حيثُ يقود الإمام صلوات الله عليه أزمّة أمور المؤمنِ، ويسدّده لما فيه الخير والصلاح.
إنّ المؤمن إذا دعا لأخيه بظهر الغيب جنى ثماراً عظيمةً أحدها استجابة الدعاء ومعيّة الملائكة وتسديدها، فكيف إذا كان المؤمن يدعو لإمامه، فكيف ستكون الإثابة والقربى؟!

- من أهمّ ما رُوي في الدعاء لصاحب الزمان (عليه السلام) ويُعتبر كتاباً وافياً في المعرفة بعض خصال خليفة الله ومناقبه وحقوقه وجهاده في سبيل الله، وينبغي أن يكون محلَّاً للتأمل، ومحطةً للعبور إلى وادي الألطاف الإلهيّة والفيوضات المهدوية.

- روى الشيخُ الطوسيُّ في كتابه (مصباح المتهجّد) ضمن أعمال يوم الجُمعة بسندٍ صحيحٍ عن السَّفير الأول (عُثمان بن سعيد العَمريّ) هذا الدعاء الشريف، وهو من الأدعية الجليلة - ذات المضامين العالية - التي يُدعَى بها في زمن الغيبة، وهو مما حثَّ عليه العلماء والسّالكون إلى الله تبارك وتعالى.

(اللّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ رَسُولَكَ، اللّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي، اللّهُمَّ لا تُمِتْنِي مِيْتَةً جاهِلِيَّةً وَلا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، اللّهُمَّ فَكَما هَدَيْتَنِي لِوِلايَةِ مَنْ فَرَضْتَ عَلَيَّ طاعَتَهُ مِنْ وِلايَةِ وُلاةِ أَمْرِكَ بَعْدَ رَسُولِكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ حَتّى والَيْتُ وُلاةَ أَمْرِكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طالِبٍ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنَ وَعَلَيَّاً وَمُحَمَّداً وَجَعْفَراً وَمُوسى وَعَلَيَّاً وَمُحَمَّداً وَعَلَيَّاً وَالحَسَنَ وَالحُجَّةَ القائِمَ المَهْدِيَّ صَلَواتُكَ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، اللّهُمَّ فَثَبِّتْنِي عَلى دِينِكَ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِطاعَتِكَ، وَلَيِّنْ قَلْبِي لِوَلِيِّ أَمْرِكَ، وَعافِنِي مِمّا امْتَحَنْتَ بِهِ خَلْقَكَ، وَثَبِّتْنِي عَلى طاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِكَ، الَّذِي سَتَرْتَهُ عَنْ خَلْقَكَ وَبِإِذْنِكَ غابَ عَنْ بَرِيَّتِكَ وَأَمْرَكَ يَنْتَظِرُ وَأَنْتَ العالِمُ غَيْرُ المُعَلَّمِ بِالوَقْتِ الَّذِي فِيهِ صَلاحُ أَمْرِ وَلِيِّكَ فِي الإذْنِ لَهُ بِإِظْهارِ أَمْرِهِ وَكَشْفِ سِتْرِهِ، فَصَبِّرْنِي عَلى ذلِكَ حَتّى لا أُحِبَّ تَعْجِيلَ ما أَخَّرْتَ وَلا تَأْخِيرَ ما عَجَّلْتَ، وَلا كَشْفَ ما سَتَرْتَ وَلا البَحْثَ عَمّا كَتَمْتَ وَلا أُنازِعَكَ فِي تَدْبِيرِكَ وَلا أَقُولَ: «لِمَ وَكَيْفَ وَما بالُ وَلِيِّ الاَمْرِ لا يَظْهَرُ وَقَدْ امْتَلاَتِ الاَرْضُ مِنَ الجَوْرِ؟!» وَأُفَوِّضَ أُمُورِي كُلَّها إِلَيْكَ.
اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُرِينِي وَلِيَّ أَمْرِكَ ظاهِراً نافِذَ الأَمْرِ مَعَ عِلْمِي بِأَنَّ لَكَ السُّلْطانَ وَالقُدْرَةَ وَالبُرْهانَ وَالحُجَّةَ وَالمَشِيَّةَ وَالحَوْلَ وَالقُوَّةَ فَافْعَلْ ذلِكَ بِي وَبِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، حَتّى نَنْظُرَ إِلى وَلِيِّ أَمْرِكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ ظاهِرَ المَقالَةِ، وَاضِحَ الدَّلالَةِ، هادِياً مِنَ الضَّلالَةِ، شافِيا مِنَ الجَهالَةِ، أَبْرِزْ يا رَبِّ مُشاهَدَتَهُ، وَثَبِّتْ قَواعِدَهُ، وَاجْعَلْنا مِمَّنْ تَقِرُّ عَيْنُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَأَقِمْنا بِخِدْمَتِهِ، وَتَوَفَّنا عَلى مِلَّتِهِ، وَاحْشُرْنا فِي زُمْرَتِهِ، اللّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ شَرِّ جَمِيعِ ما خَلَقْتَ وَذَرَأْتَ وَبَرَأْتَ وَأَنْشَأْتَ وَصَوَّرْتَ وَاحْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ بِحِفْظِكَ الَّذِي لا يَضِيعُ مَنْ حَفِظْتَهُ بِهِ، وَاحْفَظْ فِيهِ رَسُولَكَ وَوَصِيَّ رَسُولِكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ، اللّهُمَّ وَمُدَّ فِي عُمْرِهِ وَزِدْ فِي أَجَلِهِ وَأَعِنْهُ عَلى ما وَلَّيْتَهُ وَاسْتَرْعَيْتَهُ وَزِدْ فِي كَرامَتِكَ لَهُ، فَإِنَّهُ الهادِي المَهْدِيُّ وَالقائِمُ المُهْتَدِي وَالطَّاهِرُ التَّقِيُّ الزَّكِيُّ النَقِيُّ الرَّضِيُّ المَرْضِيُّ الصَّابِرُ الشَّكُورُ المُجْتَهِدُ، اللّهُمَّ وَلا تَسْلُبْنا اليَقِينَ لِطُولِ الأَمَدِ فِي غَيْبَتِهِ وَانْقِطاعِ خَبَرِهِ عَنّا، وَلا تُنْسِنا ذِكْرَهُ وَانْتِظارَهُ وَالاِيمانَ بِهِ وَقُوَّةَ اليَِقينِ فِي ظُهُورِهِ وَالدُّعاءَ لَهُ وَالصَّلاةَ عَلَيْهِ حَتّى لا يُقَنِّطَنا طُولُ غَيْبَتِهِ مِنْ قِيامِهِ، وَيَكُونَ يَقِينُنا فِي ذلِكَ كَيَقِينِنا فِي قِيامِ رَسُولِكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَما جاءَ بِهِ مِنْ وَحْيِكَ وَتَنْزِيلِكَ، فَقَوِّ قُلُوبَنا عَلى الإيمانِ بِهِ حَتّى تَسْلُكَ بِنا عَلى يَدَيْهِ مِنْهاجَ الهُدى وَالمَحَجَّةَ العُظْمى وَالطَّرِيقَةَ الوُسْطى، وَقَوِّنا عَلى طاعَتِهِ وَثَبِّتْنا عَلى مُتابَعَتِهِ، وَاجْعَلْنا فِي حِزْبِهِ وَأَعْوانِهِ وَأَنْصارِهِ وَالرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ وَلاتَسْلُبْنا ذلِكَ فِي حَياتِنا وَلا عِنْدَ وَفاتِنا حَتّى تَتَوَفَّانا وَنَحْنُ عَلى ذلِكَ، لا شاكِّينَ وَلا ناكِثِينَ وَلا مُرْتابِينَ وَلا مُكَذِّبِينَ.
اللهُمَّ عَجِّلْ فَرَجَهُ، وَأَيِّدْهُ بِالنَّصْرِ، وَانْصُرْ ناصِرِيهِ، وَاخْذُلْ خاذِلِيهِ، وَدَمْدِمْ عَلى مَنْ نَصَبَ لَهُ وَكَذَّبَ بِهِ وَأَظْهِرْ بِهِ الحَقَّ، وَأَمِتْ بِهِ الجَوْرَ، وَاسْتَنْقِذْ بِهِ عِبادَكَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الذُّلِّ، وَأَنْعِشْ بِهِ البِلادَ، وَاقْتُلْ بِهِ جَبابِرَةَ الكُفْرِ، وَاقْصِمْ بِهِ رُؤُوسَ الضَّلالَةِ، وَذَلِّلْ بِهِ الجَبَّارِينَ وَالكافِرِينَ وَأَبِرْ بِهِ المُنافِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَجَمِيعَ المُخالِفِينَ وَالمُلْحِدِينَ فِي مَشارِقِ الاَرْضِ وَمَغارِبِها وَبَرِّها وَبَحْرِها وَسَهْلِها وَجَبَلِها، حَتّى لا تَدَعَ مِنْهُمْ دَيّاراً، وَلا تُبْقِيَ لَهُمْ آثاراً، طَهِّرْ مِنْهُمْ بِلادَكَ وَاشْفِ مِنْهُمْ صُدُورَ عِبادِكَ، وَجَدِّدْ بِهِ ما امْتَحى مِنْ دِينِكَ، وَأَصْلِحْ بِهِ ما بُدِّلَ مِنْ حُكْمِكَ وَغُيِّرَ مِنْ سُنَّتِكَ حَتّى يَعُودَ دِينُكَ بِهِ وَعَلى يَدَيْهِ غَضّا جَدِيداً صَحِيحاً لا عِوَجَ فِيهِ وَلا بِدْعَةَ مَعَهُ، حَتّى تُطْفِئ بِعَدْلِهِ نِيرانَ الكافِرِينَ، فَإِنَّهُ عَبْدُكَ الَّذِي اسْتَخْلَصْتَهُ لِنَفْسِكَ وَارْتَضَيْتَهُ لِنَصْرِ دِينِكَ وَاصْطَفَيْتَهُ بِعِلْمِكَ وَعَصَمْتَهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَبَرَّأْتَهُ مِنَ العُيُوبِ وَأَطْلَعْتَهُ عَلى الغُيُوبِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ وَطَهَّرْتَهُ مِنَ الرِّجْسِ وَنَقَّيْتَهُ مِنَ الدَّنَسِ، اللّهُمَّ فَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى آبائِهِ الأئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ وَعَلى شِيعَتِهِ المُنْتَجَبِينَ وَبَلِّغْهُمْ مِنْ آمالِهِمْ ما يَأْمَلُونَ، وَاجْعَلْ ذلِكَ مِنَّا خالِصا مِنْ كُلِّ شَكٍ وَشُبْهَةٍ وَرِياءٍ وَسُمْعَةٍ حَتّى لا نُرِيدَ بِهِ غَيْرُكَ وَلا نَطْلُبَ بِهِ إِلاّ وَجْهَكَ، اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا وَغَيْبَةَ إِمامِنا وَشِدَّةَ الزَّمانِ عَلَيْنا وَوُقُوعِ الفِتَنِ بِنا وَتَظاهُرَ الأعْداءِ عَلَيْنا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا وَقِلَّةَ عَدَدِنا، اللّهُمَّ فَافْرُجْ ذلِكَ عَنّا بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ وَنَصْرٍ مِنْكَ تُعِزُّهُ وَإِمامِ عَدْلٍ تُظْهِرُهُ إِلهَ الحَقِّ آمِينَ، اللّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَأْذَنَ لِوَلِيِّكَ فِي إِظْهارِ عَدْلِكَ فِي عِبادِكَ وَقَتْلِ أَعْدائِكَ فِي بِلادِكَ، حَتّى لا تَدَعَ لِلْجَوْرِ يا رَبِّ دِعامَةً إِلاّ قَصَمْتَها، وَلا بَقِيَّةً إِلاّ أَفْنَيْتَها، وَلا قُوَّةً إِلاّ أَوْهَنْتَها، وَلا رُكْنا إِلاّ هَدَمْتَهُ، وَلا حَداً إِلاّ فَلَلْتَهُ، وَلا سِلاحاً إِلاّ أَكْلَلْتَهُ، وَلا رايَةً إِلاّ نَكَّسْتَها، وَلا شُجاعاً إِلاّ قَتَلْتَهُ، وَلا جَيْشاً إِلاّ خَذَلْتَهُ، وَارْمِهِمْ يا رَبِّ بِحَجَرِكَ الدَّامِغِ، وَاضْرِبْهُمْ بِسَيْفِكَ القاطِعِ، وَبَأْسِكَ الَّذِي لا تَرُدُّهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ، وَعَذِّبْ أَعْدائكَ وَأَعْداءَ وَلِيِّكَ وَأَعْداءَ رَسُولِكَ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِيَدِ وَلِيِّكَ وَأَيْدِي عِبادِكَ المُؤْمِنِينَ، اللّهُمَّ اكْفِ وَلِيَّكَ وَحُجَّتَكَ فِي أَرْضِكَ هَوْلَ عَدُوِّهِ وَكَيْدَ مَنْ أَرادَهُ، وَامْكُرْ بِمَنْ مَكَرَ بِهِ، وَاجْعَلْ دائِرَةَ السَّوءِ عَلى مَنْ أَرادَ بِهِ سُوءاً، وَاقْطَعْ عَنْهُ مادَّتَهُمْ، وَأَرْعِبْ لَهُ قُلُوبَهُمْ، وَزَلْزِلْ أَقْدامَهُمْ، وَخُذْهُمْ جَهْرَةً وَبَغْتَةً، وَشَدِّدْ عَلَيْهِمْ عَذابَكَ، وَأَخْزِهِمْ فِي عِبادِكَ، وَالعَنْهُمْ فِي بِلادِكَ، وَأسْكِنْهُمْ أَسْفَلَ نارِكَ، وَأَحِطْ بِهِمْ أَشَدَّ عَذابِكَ، وَأَصْلِهِمْ ناراً، وَاحْشُ قُبُورَ مَوْتاهُمْ ناراً، وَأَصْلِهِمْ حَرَّ نارِكَ، فَإِنَّهُمْ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ وَأَضَلُّوا عِبادَكَ وَأَخْرَبُوا بِلادَكَ، اللّهُمَّ وَأَحْيِ بِوَلِيِّكَ القُرْآنَ، وَأَرِنا نُورَهُ سَرْمَداً لا لَيْلَ فِيهِ، وَأَحْيِ بِهِ القُلُوبَ المَيِّتَةَ وَاشْفِ بِهِ الصُّدُورَ الوَغِرَةَ، وَاجْمَعْ بِهِ الأَهْواءَ المُخْتَلِفَةَ عَلى الحَقِّ، وَأَقِمْ بِهِ الحُدُودَ المُعَطَّلَةَ وَالأحْكامَ المُهْمَلَةَ حَتّى لايَبْقى حَقُّ إِلاّ ظَهَرَ وَلا عَدْلٌ إِلاّ زَهَرَ، وَاجْعَلْنا يا رَبِّ مِنْ أَعْوانِهِ وَمُقَوِّيَةِ سُلْطانِهِ وَالمُؤْتَمِرِينَ لأمْرِهِ وَالرَّاِضينَ بِفِعْلِهِ وَالمُسَلِّمِينَ لأحْكامِهِ، وَمِمَّنْ لا حاجَةَ بِهِ إِلى التَّقِيَّةِ مِنْ خَلْقِكَ، وَأَنْتَ يا رَبِّ الَّذِي تَكْشِفُ الضُّرَّ، وَتُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذا دَعاكَ، وَتُنْجِي مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ، فَاكْشِفِ الضُّرَّ عَنْ وَلِيِّكَ وَاجْعَلْهُ خَلِيفَةً فِي أَرْضِكَ كَما ضَمِنْتَ لَهُ.
اللّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِنْ خُصَماءِ آل مُحَمَّدٍ عَلَيْهُمُ السَّلامُ، وَلا تَجْعَلْنِي مِنْ أعْداءِ آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهُمُ السَّلامُ، وَلا تَجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الحَنْقِ وَالغَيْظِ عَلى آلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهُمُ السَّلامُ، فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ذلِكَ فَأَعِذْنِي وَأَسْتَجِيرُ بِكَ فَأَجِرْنِي، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاجْعَلْنِي بِهِمْ فائِزاً عِنْدَكَ فِي الدُّنْيا وَالآخرةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ).

الخميس، 1 أكتوبر 2020

ميثاق العسر ومحاولته الفاشلة لإجابة التّحدي القرآني!

بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق العسر ومحاولته الفاشلة لإجابة التّحدي القرآني!

كتب ميثاق العسر هذا التعليق ضمن إحدى المنشورات، محاولاً إجابة التحدي القرآنيّ الذي تحدى به اللهُ المشركينَ أن يأتوا بسورة من مثله.

وكتب الشيخ أحمد أبو زيد العامليّ على صفحته الشخصيّة:

تحدّى القرآن الكريم العرب أن يأتوا بمثله.. لم يصلنا ما يشير إلى أنّ بلغاء العرب الذين كانوا يفتخرون بأشعارهم ومعلّقاتهم، والذين كانوا على اطّلاع بما يعرف بـ(سجع الكهّان) قد انساقوا لهذا التحدّي وقبلوه، وإنّما اعتبره البعض أقرب إلى السحر؛ لأنّ سرّ انجذاب الكثيرين له لم يكن في لغته وبلاغته فحسب، بل بمضامينه وبما به تحرّكت نفوسهم وتفاعلت مع الحقّ، حتّى إنّ بعض من آمن بالنبي (ص) كان يؤمن بعد سماعه آيةً أو آيتين، فليس السرّ في الجانب اللغوي فحسب..

إنّ إحجام العرب عمومًا عن الاستجابة لتحدّي (الإتيان بمثله) يُفهم على أساسٍ من إحدى أطروحتين، وقد قلنا (عمومًا) لأنّه لم يتمّ التعامل مع مقلّدة القرآن الكريم ـ كمسيلمة ـ تعاملًا جديًّا حتّى من غير المؤمنين بالقرآن، ولم يتمسّك أحدهم بمقولات مسيلمة ليصرخ ويقول: لقد أتينا بمثله:

الأطروحة الأولى: أن يكون العرب قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم وفق السياق الذي تحرّك به مسيلمة، أي أن يكونوا قد فهموا من (المثليّة) ما تحرّك مسيلمة لتحقيقه، مع إقرارهم بأنّ شخص ما أتى به مسيلمة لا يرقى إلى مستوى المنافسة. وبعبارة منطقيّة، يكونون قد فهموا كبرويًّا ما فهمه مسيلمة وأضرابه، لكنّه أنكروا عليه على مستوى الصغرى.
ويرجع الفشل في تحقيق الصغرى: أوّلًا: إلى فشل المتحدّى ـ بفتح الدال ـ في الحفاظ على جزالة الجانب اللغوي، وثانيًا: إلى أنّ عليه أن لا يقصر نظره في المنافسة على الجانب اللفظي والسبك اللغوي، بل عليه أن يتحرّك في جوّ المضامين العالية المحرّكة للنفوس، وهو أمرٌ لا يقوى على تحقيقه سوى بارئها.

الأطروحة الثانية: أن يكون العرب قد فهموا من المثليّة معنًى آخر مباينًا للمعنى السابق، وهو ما سنصطلح عليه بـ(المثليّة الندّيّة) أو (العرضيّة) ـ بتسكين الراء ـ في مقابل (المثليّة المحاكاتيّة) أو (الطوليّة) التي تمثّل المعنى الوارد في الاطروحة الأولى.
ولتوضيح المقصود من (المثليّة الندّيّة) أو (العرضيّة) سنضرب مثالًا من عالم البرمجيّات:
تطلق شركة مايكروسوفت برنامج (وورد) لمعالجة النصوص والنشر المكتبي (وورد ليس مخصّصًا لمعالجة الكتب)، وتتحدّى الشركات الأخرى أن يأتوا بمثله.
تستجيب العديد من شركات البرمجة للتحدّي، وتظهر على الساحة العديد من البرامج والتطبيقات (أوفيس سويت على سبيل المثال)، والمشترك بينها أنّك ستشعر عند إجرائها أنّك لا زلت في جوّ برنامج (وورد) نفسه؛ لأنّها لا تعدو كونها (محاكاةً) له، مع تغيير طفيف في تسميات الأوامر، لكنّها في النهاية خاضعة له وتقع في طوله، والأهمّ في الموضوع: لولا أنّ الوورد على هذا النحو لما جاءت هي على هذا النحو، وكلّ من يألف العمل في بيئة وورد سيألف العمل في بيئتها، مع قطع النظر الآن عن تقييمها، وهل ترقى إلى مستوى (وورد) أم لا.
وفي المقابل تستجيب شركة (أدوبي) للتحدّي وتُصدر برنامج (إنديزاين) الذي يقوم بمعالجة النصوص على أسس ومبادئ مختلفة تمامًا عن المبادئ التي يقوم عليها (وورد)؛ فالوورد يعمل على مبدأ (الملف) وعدم إمكانيّة التفكيك بين الصفحات التابعة لملفّ واحد، بينما يعتمد (إنديزاين) مبدأ التبعيض ويتيح إمكانيّة التحكّم الاختياري بالصفحات مفكّكةً، اعتمادًا منه على مبدأ (الصفحات الماستر) أو (القوالب المتعدّدة).
هذا مرورًا بطريقة معالجة الخطوط داخل البرنامج بعيدًا عن طريقة ظهور الخطّ في بيئة (الويندوز) أو (الماك)، وصولًا إلى خيارات التحكّم بالأسطر بطريقة غير موجودة أساسًا في (الوورد).
إنّ بإمكان مالك برنامج (أوفيس سويت) أن يقول لبيل غيتس: لقد استجبتُ للتحدّي وأتيتُ لك بـ(أوفيس سويت)، كما إنّ بإمكان تشارلز غيشكي مالك شركة أدوبي أن يقول الشيء نفسه، لكن لا مناص من الاعتراف بوجود فارقٍ كبيرٍ بين التحدّيين.

عندما نزل القرآن الكريم على العرب جاء بنظام لغوي كامل يشتمل على خصّيصتين في وقت واحد: الأولى أنّه عربيٌّ يفهمه العربي، والثانية: أنّ له طريقته الخاصّة في التعبير والأداء لم يألفها العرب ولم يتحدّثوا بها، حتّى إنّ النبي (ص) لم يتحدّث بها في حياته اليوميّة، فكان (ص) يحدّث الناس باللغة التي يعرفون، حتّى إذا نزل عليه الوحي انقلب إلى طريقة أخرى ونظام آخر في التعبير.

السؤال المركزي الآن: هل فهم العرب من التحدّي أنّهم مطالبون بالمثليّة بالمعنى الأوّل (المحاكاتيّة)؟ أم بالمعنى الثاني (الندّيّة)؟ وبعبارة أخرى: هل فهموا من التحدّي أنّ عليهم (تقليد) القرآن الكريم؟ أم فهموا أنّ عليهم أن يحدثوا نظامًا لغويًّا جديدًا، فيكون معنى التحدّي القرآني: لقد أتيتُ بنظام تعبيريٍّ جديد، وأنا أتحدّاكم أن تأتوا بنظام جديد، لا أنّه تحدّاهم أن يقلّدوه..
ولو سلّمنا أنّهم فهموا المعنى الأوّل: هل كان ذلك مقتصرًا على الجانب اللغوي البسيط؟ أم أنّه يتعدّاه إلى المركّب الذي يشتمل بمجموعه على (السحر) ـ مجازًا ـ الذي جعل أفئدة الناس تهوي إليه؟

وحول الصورة المرفقة: لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

السبت، 19 سبتمبر 2020

تعليقات موجزة حول التشكيك بتاريخ السفراء الأربعة

 بسم الله الرحمن الرحيم

تعليقات موجزة حول التشكيك بتاريخ السفراء الأربعة

كتبَ ميثاقُ العسر هذا النصّ محاولاً إيراد شبهةٍ بحقّ سفراء الإمام الحجّة (ع):

وهنا ينبغي الإشارة إلى جملةٍ من النقاط:

[1] للبحث في المسائل التاريخيّة التي تتعلق بالتشيّع، يمكنك أن تحاورَ المتعهّد والملتزم بالأدلّة الصحيحة وأن تصل معه إلى نتيجةٍ، أما من ينتقي وفقاً لمزاجه فإنّك لا يمكنك أن تتفاهم معه، وعلى سبيل المثال ما يحاول هذا الكاتب إبرازه في مسألة السفراء الأربعة، فهو يحاول أن يُوقِعَ واقعاً عاشه من خلال تجربته مع جهةٍ دينيةٍ ما على السفراء الأربعة، ويريد أن يوحيَ للقارئ أنّ مسألة السفراء الأربعة نشأت من سطوة عائلة (بني نوبخت) التي فرضت نفسها على الواقع الشيعيّ، مع أنّه من المستحيل أن تنضوي طائفة بأكملها تحت لواء عائلة واحدة في مقابل وجود بيوتات علميّة أخرى ترى لنفسها وزناً في التشيع أمثال آل أعين وبني بابويه وأشاعرة قم وغيرهم، فكيف يتصور رضوخ قم وبغداد وسائر المناطق إجماعاً بما فيها من عائلات ذات ثقل علمي أمام بني نوبخت، فعلى الأقل، لماذا لم ينازعوهم؟! إذا كانت المسألة ليست تعبّدية، بل سطوة عائليّة فما سر اتّفاق الشيعة على مرجعية السفراء الأربعة، مع أنه لم يكن من بني نوبخت أحد منهم إلا ثالث السفراء فقط، فيا لهذه السيطرة المزعومة!!

[2] كيف عرف المشكك بأن تلك التهم كيدية، ولازم ذلك أنه وقف على حقيقة تلك القضايا، وميز الحق من الباطل، فلماذا لم يتحف متابعيه بدليل هذا الاكتشاف، أم أن القضية من إفرازات الولع بالتشكيك!! هكذا يضمّن شبهاته (فتاوى جاهزة) كالعادة، وبذلك يصبح الاتهام دليلاً، وتصبح الدعوى دليلاً (!).

[3] إنّ الدليل الصحيح يقودنا إلى أن أمر السفارة بدأ بالعمري وابنه، ولا يوجد في الكتب دليلٌ واحدٌ على وجود أثر لبني نوبخت في اختيار هؤلاء، بل الثابت بالأسانيد العالية الصحيحة أنّ وثاقة العمري وابنه واختيارهما كوجوه موثوقة للشيعة كان من قِبل الإمام العسكري (عليه السلام) وفي الرواية قول الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري: (وأخبرني أبو علي [أحمد بن إسحاق الأشعري الثقة الجليل] أنه سأل أبا محمد عليه السلام عن مثل ذلك، فقال له : العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك)، رواه الكليني وسند الرواية صحيح باتفاق علماء الرجال، لم يطعنوا في وثاقة وصدق رجلٍ منهم، ولا قطع في الإسناد ولا خلل، وفي هذا الإسناد قال السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره: ( إِذن فمثل هذه السلسلة الذهبيّة ممّا يطمئن بصدق تمام رواتها) [بحوث في علم الأصول، بتقرير السيد محمود الهاشمي الشاهروديّ].

وهنا يمكن للعاقل أن يتخيّر بين أن يأخذَ بهذه الحجج أو تحليلات المجهولين الذين مرّوا بتجارب نفسيّة سيئة جداً خلال حياتهم (الدينيّة).. على أنّ مسألة وثاقة السفراء الأربعة كانت محل اتّفاق جماهير الشيعة، وفي ذلك يصف الثقة الجليل هارون بن موسى التلعكبري مسألة انحراف الشلمغاني عن السفير الثالث: «أقامت الشيعة على لعنه والبراءة منه» [غيبة الطوسي] ما يعني أنّ انقياد الشيعة لهؤلاء كان محلّ تسالمٍ، والخارج عنهم منبوذٌ في الطائفة.

[4] إذا قبلنا بالتفكير بسذاجة في أنّ آل نوبخت هم من كانوا يديرون دفّة الزعامة وصنعوا هذه الزعامة لأنفسهم من خلال دعوى السفارة، فلماذا سلّم السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي السفارة لشخصٍ ليس من عائلته، ولماذا يخسرون موقعاً كبيراً للتحكم في التشيع فأغلقوا باب السفارة وبثوا النص على تكذيب مدّعيها، فأصحاب الزعامات والسطوات لا يبحثون إلا عن بقاء نقاط القوّة بأيديهم، فلماذا أغلقوا باب السفارة؟! وجلسوا بدون أي منفذ قوة، فلا سفارة ولا مرجعية ولا زعامة، وإنّما انتهى الأمرُ إلى قيادة الفقهاء.

[5] عملُ السفراء الأربعة لم يقتصر على تلقي الأموال ونقلها، بل كانوا يتصدون للأمور الدينية، وهذا لا يخلو من أن يكون هؤلاء يكذبون ويضللون طائفةً بأكملها، أو أنهم صادقون، فإن كان الأول فهذا مفوّت لأغراض الشارع وناقض لغرض الهداية بما يمحو صورتها تماماً، ويستدعي من الإمام أن يتصدى لذلك أو أن ينصب من يبين هذا، على أن يظهر كذب السفراء في زمانهم لا سنة 2018 على الفيسبوك. أو أنّ هؤلاء أهل ثقة وصدقٍ وأمانة كما هو الثابت من توثيقهم من قِبل المعصوم (عليه السلام) والمتفق عليه بين جميع علماء الإماميّة. على أنّ الرجل المشكك لا يهتمّ للإلزام بضرورة تصدي الإمام في وجه السفراء المدّعين المضللين لطائفة بأكملها؛ لأنه لا يعتقد بوجود الإمام أصلاً، يفهم هذا من يقرأ ما بين السطور(1)، وإنما يدغدغ مشاعر السذّج والبسطاء ومن لا يقرؤون شيئاً فشيئاً حتى يوصلهم للشك بتمام مفردات العقيدة واحدةً واحدة حتى يرمي بهم في وحل الإلحاد.

[6] العاقل ينبغي له أن يتخيّر بين التحليلات التي لا تخفى فيها الآثار النفسيّة الحادّة من التجربة السابقة للكاتب - وهو معروفٌ لمن عرفه - وما هي الصدمات والإخفاقات التي مُنِي بها خلال مسيرته (التجارية الدينية)، وبين أن يأخذ بالأدلة الصحيحة والموثوقة من كتب العلماء المقطوع بصدقهم وأمانتهم مع بروز الشواهد الكثيرة على عدم تواطؤهم على الكذب.

[7] الذي يضحكُ في تحليل هذا الكاتب الفذّ، أنّه كان يطالب دوماً القراء بالتفكير خارج الصندوق، إلا أنّه هذه المرة فكّر بطريقة الصندوق الذي كان محبوساً فيه لسنوات، فقد كان عضواً في مافيا دينية نَمَتْ على السطوة الماليّة والإعلامية التي حظيت بها، ويبدو أنّه عمل بالاستصحاب القهقرائي وظنّ أن التشيع منذ بدايته هكذا، وظنّ أنه ما كان هناك صادقون ولا مخلصون، ولعله يظن الكليني والصدوق أمثال أستاذه المبارك الذي نما وترعرع عبر المال والإعلام وسرقة الكتب من المؤلفين، وهنا سؤال أخير:

يوماً ما، كنتَ قد وصفت أستاذك الحيدري بـ(العلّامة) وأنت تروج دروسه وكتبه ثم خرجت علينا في صفحتك لتفضحه ولتقول إنه لا يعرف المسائل الخلافيّة مع أهل السنة، وفي الفلسفة سرق من الشيخ غلام رضا فياضي وووإلخ، ووجدت لنفسك تبريرات لخديعة الناس يوم كنت تقول لهم إن أستاذك علّامة!!.. فما الضامن للقراء أنّك الآن لا تخدعهم في حيلةٍ أخرى لا سيّما أنك بوقٌ يجري في الاتجاه الذي يُدفع به؟!!

____________

(1) كتب الشيخ إبراهيم جواد هذا الرد في صفحته الشخصيّة بتاريخ 4/3/2018 ولم يكن ذلك المنحرف قد صرّح علانيةً بنفي وجود الحُجّة (عليه السلام)، وهو الآن كما قيل حقّاً يجرُّ الآخرين إلى الإلحاد فقد وصل مؤخراً إلى مرحلة الطعن في القرآن الكريم مدّعياً أنّ جمعه لم يكن أمراً قد اهتمّت به (السماء)، كما نفى الإمامة، وطعن في مقامات أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم..فبئس العاقبة التي انتهت بتُجّار الدين.

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

قال ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) بعد أن سرد جملة من الأسئلة التي تتعلّق بنهضة سيّد الشهداء (عليه السلام) وطبيعة الاستفادة منها ما نصّه: (اعتقد أنّنا بحاجة ماسّة إلى التجرّد عن عواطفنا ومذهبيّتنا المفرطة لإعادة قراءة حركة الحسين بن علي ومعرفة فلسفتها بعيداً عن المسحة الغيبية المفرطة التي مُسحت بها منذ القرن السابع الهجريّ وحتى اليوم؛ ومن غير ذلك سيستمر المعمل العاشوريّ المتداول في انتاج طقوس وممارسات يومية وسنوية نُسلّي بها عواطفنا ومشاعرنا ونملأ بها جيبونا [ظ جيوبنا] لا عقولنا، ومفتاح حلّ جميع هذه الأمور هو خلع النظارة المذهبية وإعادة قراءة مفردة علم الإمام وموضعتها في مكانها القرآني والنبويّ السليم بلا إفراط أو تفريط)، انتهى.

إنّنا إذا أردنا نقد أيّ قراءةٍ لواقعة كربلاء لا بُدّ لنا من التنقيب عن جذورها ومستنداتها التي بُنيت عليها، وإلّا فلن نتمكّن من إنتاج تحليلٍ سليمٍ ونقدٍ علميٍّ متينٍ بشأنها، وحيثُ إنّ ما يكتبُه العسر لم يخرج عن نطاق الفتوى والادّعاءات الجوفاء التي تكشف عن قصورٍ في التتبع وعجزٍ عن التحليل والاستنتاج فضلاً عن ضعفه في تقديم المعطيات أمام القرّاء بكل وضوحٍ وشفافيّةٍ ادّعى أن واقعة كربلاء قد أُلصقت بها مسحة غيبيّة مُنذ القرن السابع الهجريّ من دون دليلٍ يُذكَر. وانطلاقاً من هنا نسعى في هذه المقالة إلى بيان مستندات هذه القراءة بالنحو الكافي الذي يسمح به المجالُ أمامنا، ونقول: إذا أُطلقت المسحة الغيبية على قراءة واقعة كربلاء فيُحتمل منها إرادة أمرين اثنين أو أوّلهما بالخصوص:
الأمر الأوّل: يتعلّق بطبيعة حركة سيّد الشهداء (عليه السلام) وأنّه عالِمٌ بمقتله في كربلاء، وإذا ثبت ذلك فسوف يكون خروج سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه مقروءاً بنحوٍ مُغايرٍ عمّا لو كان خروجه كخروج غيره من ناحيةٍ عمليّةٍ.
الأمر الثاني: يتعلّق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة وعظمتها.
وسوف نتكلم في الأمر الأوّل لأهميّته وكونه هو المقصود جدّاً عند جملة من المشكِّكين، أما الأمرُ الثاني فسوف نحيلُ إلى بعض الدراسات والتحقيقات المهمّة بشأنه.

[1] جذور القراءة الغيبيّة لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام)

إنّ نسبة ورود الجانب الغيبيّ إلى قراءة واقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ لا تخلو من جهلٍ بواقع تلك القراءة؛ فإنّ مستنداتها بارزةٌ منذ قرونِ المتقدّمين، ولم يكن الأمرُ محصوراً بالسيّد ابن طاوس أو غيره ممن كتبَ في هذا الموضوع خلال القرن السابع الهجريّ، ولبيان أبعاد هذه المسألة سوف نشير إلى جانبيْنِ أساسيّين:
الجانب الأوّل: وجود مستنداتٍ علميّة معرفيّة تُدعّم القراءة الغيبيّة خلال قرون المتقدّمين.
الجانب الثاني: إبراز العامل الكميّ والكيفيّ الذي تميّزت به هذه المستندات.

أمّا بالنسبة للجانب الأوّل: فإنّ روايات الإخبار بمقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء قد رُويت في المصادر الإمامية والزيديّة والسنيّة، نذكر جملةً منها:
1. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه (ت:368هـ) بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الخزاز، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الملك بن أعين، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في بيتِ أمّ سلمة وعنده جبرئيل عليه السلام فدخل عليه الحسينُ عليه السلام، فقال له جبرئيل: إنّ أمّتكَ تقتل ابنَك هذا، ألا أريك من تربة الأرض التي يُقتل فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم. فأهوى جبرئيل عليه السلام بيده وقبض قبضةً منها فأراها النبيّ صلى الله عليه وآله)، انظر: كامل الزيارات، ص137، رقم الحديث 144، الباب 17، ح4.
2. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثني سعدُ بن عبد الله بن أبي خلف، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إنّ جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله والحسينُ عليه السلام يلعب بين يديه، فأخبره أنّ أمته ستقتله. قال: فجزع رسول الله صلى الله عليه وآله..إلخ)، انظر: كامل الزيارات، ص135، رقم الحديث141، الباب17، ح1.
3. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله (ت:499هـ) بإسناده عن أم سلمة (رضي الله عنها)، قال: (أخبرنا محمد بن محمود بن قحطبة بن بندار المقري بقراءتي عليه في جامع الكوفة، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي حكمة الثيملي التمار المعروف بابن أبي قراب، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن صالح بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا سعيد بن سلمة وهو ابن أبي الحسام، قال: حدثني جد موسى بن جبير، عن عبد الله بن سعيد، عن عبيد الله، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: بينما حسين عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البيت وقد خرجت لأقضي حاجة ثم دخلت البيت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ حسيناً فأضجعه على بطنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه من الدمع، فقلت: يا رسول الله، ما بكاؤك؟ قال: " رحمة هذا المسكين، أخبرني جبريل عليه السلام أنه سيقتل بكربلاء، قال: دون العراق، وهذه تربتها قد أتاني بها جبريل عليه السلام)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص219، رقم الحديث 800.
4. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأرجي بقراءتي عليه في باب الأزج ببغداد، قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن إبراهيم بن سنبك البجلي، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن الأشناني، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، قال: حدثنا موسى بن إبراهيم المروزي الأعور، قال: حدثني موسى بن جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقتل ابني الحسين بظهر الكوفة، الويل لقاتله وخاذله وتارك نصرته»)، انظر: الأمالي الخميسيّة، ج1، ص240، رقم الحديث 839.
5. مصدر سنيّ: روى الحافظُ ابن طهمان (ت:168هـ) في كتابه (المشيخة): (عن عبّاد بن إسحاق، عن هاشم بن هاشم، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال: «لا يدخل عليَّ أَحد»، فسمعت صوتاً فدخلت، فإذا عنده حسين بن علي وإذا هو حزين -أو قالت: يبكي- فقلت: ما لك تبكي يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل أن أمتي تقتل هذا بعدي فقلت: ومن يقتله؟ فتناول مدرة، فقال: أهل هذه المدرة تقتله).
قال المحقق الدكتور محمد طاهر مالك: (إسناده حسن، رجاله ثقات، وهاشم بن هاشم هو ابن عتبة الزهري المدني ثقة من رجال الكتب الستة، وعبد الله  بن وهب هو ابن زمعة بن الأسود الكندي، والحديثُ صحيح لشواهده وطرقه الكثيرة)، انظر: مشيخة ابن طهمان، ص55، رقم الحديث3.
ونقلها عنهُ الحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام، ج2، ص365)، وعلّق عليها المحقق شعيب الأرناؤوط في هامشها بقوله: (إسناده حسن، من أجل عبد الله بن وهب بن زمعة فإنَّه صدوق حسن الحديث).
6. مصدر سنيّ: روى ابنُ سعدٍ (ت:230هـ) في طبقاته بإسنادٍ حسنٍ: (وأخبرنا عليُّ بن محمّد، عن حمّاد بن سلمة، عن أبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: كان جبريل عند رسول الله والحسين معي فبكى فتركته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته فبكى فأرسلته. فقال له جبريل: أتحبه؟ قال: نعم. فقال: أما إنَّ أمتك ستقتله).
قال المحقق محمد بن صامل السّلمي: (إسناده حسن)، انظر: الطبقات الكبرى – الطبقة الخامسة من الصحابة، ج١، ص٤٢٨، رقم الحديث ٤١٦.
وكلّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ جزماً، وقد ذكرنا في مدوّنة (وثائق عن حقيقة الوهابيّة) سلسلةً من الروايات التي رواها علماء أهل السنة، وانتخبنا منها مقداراً يسيراً أقرَّ علماؤهم ومحققوهم بصحّته واعتباره، وهذه جملة روابط السلسلة:

ومن الجدير بالإشارة إليه كتابُ (مقتل الإمام الحسين، رواية عن جدِّه) للشيخ قيس العطار، وهو دراسةٌ جامعةٌ لأحاديث الإخبار بشهادة الحسين (صلوات الله عليه) على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) من طرق أهل السنة، فليُراجع فإنّه وافٍ بإطلاع القارئ على كثيرٍ من الطرق؛ فإنّ المقال لا يتّسع لإيراد المطوّلات التي تبيّنُ سعة الرواية وكثرة طرقها المؤديّة إلى الاطمئنان بصدورها.
لتحميل كتاب الشيخ العطّار: اضغط هنا - اضغط هنا.
هذا كلّه فضلاً عمّا رواه الشيعة من طرقهم كالصفّار في (بصائر الدرجات)، والكلينيّ في (الكافي)، وعلي بن بابويه في (الإمامة والتبصرة)، وابن قولويه في (كامل الزيارات)، والنعمانيّ في (الغيبة)، والصدوق في بعض كتبه الحديثيّة، والخزاز القميّ في (الكفاية)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الأمالي) و(الغيبة)، وكلُّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة للجانب الثاني: فإنّ قيمة هذه الأحاديث تتّحدد من خلال بيان العامل الكميّ والعامل الكيفيّ، أما الأوّل فمن الواضح أنّ هذه الأحاديث كثيرةٌ طرقها، متوافرة أسانيدها، وهذا ما يُضعّف احتمال الكذب – لا سيّما إذا لاحظنا العامل الكيفيّ أيضاً-، كما أنها منقولة عن كتبٍ معتبرةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، وإنّ الاستطراد في تتبعها عند الفرق الإسلاميّة خبراً خبراً يستدعي مئات الصفحات، وما ذكرناه هو غيضٌ من فيض.
وأمّا العامل الكيفيّ فيتلخَّص في أنّ هذه الأحاديث لها مزيّة عظيمة وهي أنّها وردت من طرق مذاهب مختلفة (الإماميّة، الزيديّة، أهل السنة)، وقد أقرّوا بصحتها وقبلوها، يُضاف إلى هذا عدم وجود غرضٍ مذهبيّ لأهل السنّة والزيديّة في اختلاق مثل هذه الأخبار، فإنهم لا تعلّق لهم بإسباغ صفاتٍ غيبيّة على أهل البيت (عليهم السلام) ومسيرتهم، وهذا الأمرُ ليس من ملامح هذين المذهبين، وهذا بمجموعه يُضعّف احتمال الكذب فيها، وقد أشار السيّد الصدر (رحمه الله) إلى قيمة هذه النقطة عند حديثه حول العوامل الموضوعية التي ترتبط بالشهادات وتؤثّر في إفادة التواتر لليقين، قال (رحمه الله): (تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية: فإنَّه كلَّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع؛ لأنَّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك للكذب أبعد وأضعف. وقد أدرك القدماء هذا الشرط أيضاً بفطرتهم فاشترط بعضُهم أن يكون الشهود من بلدان عديدة أو من ملل وأديان مختلفة ونحو ذلك، وجوهر النكتة ما أشرنا من أنَّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً)، انظر: بحوث في علم الأصول، ج4، ص333.
وبملاحظة كثرة طرق الرواية، وتعدد رواتها من مذاهب مختلفة، يضعف احتمال الكذب، ولا سيّما إذا انضمّ لذلك ورودها عبر جملةٍ من الأسانيد المسلسلة بالثقات الأجلّاء، فتأمّل.

[2] دلائل الأحداث الغيبية الإعجازيّة الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه).

وأمّا بالنسبة للأمر الثاني الذي يتعلق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة، فنُحيل في المقام إلى دراستين تناولتا جملةً من الروايات الواردة في كتبٍ سُنيّةٍ متقدّمةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، ويردُ في حقّها ما ذكرناه من العامل الكميّ والعامل الكيفيّ باعتبار ورودها من طرق مذهب آخر لا تعلّق به بالإمامة ومسيرها وإسباغ صبغة غيبيّة عليه.
1. كتاب "غضب الله تعالى لمقتل الحسين (عليه السلام) بالأسانيد الجياد"، للشيخ باسم الحليّ، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.
2. بحث موجز بعنوان "رسالة في حال السماء بعد مقتل الحسين (عليه السلام) من طرق أهل السنة للأخ الباحث ناصر الحُسين، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.

ويتلخّص مما تقدّم: أنّ جذور القراءة الغيبيّة لواقعة كربلاء ترجعُ إلى القرون الأولى ولم تبرز في القرن السابع الهجريّ، وتمتازُ هذه الجذور والمستندات بكثرة الطرق عند المذاهب الإسلاميّة، واعتبارها واعتمادها عند علماء كلّ مذهب، وهذا ما يعزّزُ العامل الكميّ والكيفيّ في مقام الاطمئنان بصدور هذه الروايات، وبذلك يتبيّن أنّ دعوى إلصاق مسحة غيبيّة بواقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ تفتقرُ إلى الدليل، فضلاً عن شهادة البراهين الأخرى ببطلانها، وهذا دالٌّ على عبثيّة أصحاب تلك الدعاوى وعدم جدّيتهم في طرح البراهين أمام القُرّاء والاكتفاء بالادّعاء والخطابيّات الإنشائيّة.

الأحد، 6 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٢): دور السيّد ابن طاوس في قراءة واقعة كربلاء

ادّعى ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص9) أنّ السيد ابن طاوس (رحمه الله) قد أحدثَ تغيّراً جوهرياً في فهم فلسفة هذه الواقعة وأحداثها، ثم تساءل قائلاً: (إذا حذفنا فقرة المرحوم ابن طاووس المقلقة من مشهد كربلاء بالكامل فهل ستبقى صورة كربلاء كما هي حالياً في أذهاننا ومنابرنا)، ثم ختم كلامه قائلاً: (إن الجيل الاثني عشري الجديد بحاجة ماسّة إلى دراسة مرحلة ابن طاووس دراسة دقيقة من جميع الجهات والجوانب؛ فإن هذا الأمر سيفتح لهم آفاقاً كثيرةً سعت النخب الدينية لأجيالهم السابقة إلى التعتيم عليها أو تضييقها..)، انظر: كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص10.

وهنا نعرضُ بعض التعليقات والملاحظات:
أولاً: إنّ طبيعة هذا الكلام ترجعُ إلى ما قُلناه في المقالة السابقة من كون جملةٍ واسعةٍ مما أسماه العسرُ "بحوثاً تنويريّة" هي فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة، فهذا الكلام يمكن تلخيصه في سطرٍ واحدٍ وهو: توجيه أصابع الاتهام إلى السيّد ابن طاوس في تحريف واقعة كربلاء ونقلها من صبغتها الواقعيّة إلى صبغة أخرى لا تنسجم مع حقيقتها. وفي الواقع، هذه مجرّد ادّعاءات وفتاوى يستسهل صاحبُها إطلاقها دون أن يكون له جهدٌ بحثيٌّ استدلاليٌّ يُذكر في بيان صحّة الادّعاء بالأدلّة والمستندات.
والحاصل: إنّ القارئ لملفّه لا زال يدور في فَلَك: «خذوها مِنّي على نحو الفَتْوى»!
ثانياً: إنّ قراءة واقعة كربلاء تستندُ إلى جملةٍ من الأصول الثابتة، وهذه الأصول التي يعتمدُ عليها الشيعة الإمامية في تحليل الواقعة معروفةٌ في كتب الحديث والتاريخ والمقاتل، وبناءً على ذلك يجب أن تكون عُهدة الجواب على نفس المُدّعي، فنقول: سنسلّم جدلاً ونقبل بحذف تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله) من قراءة واقعة كربلاء، فما الذي سيتغيّر فيها؟
وهنا ينبغي الالتفات إلى أمرٍ مهمٍ في تحقيق المطلب: من الممكن جدّاً أن يكون السيّد قد أوردَ في بعض كتبه روايةً محلاً للنقاش أو تأمّل فيها العلماء، إلا أنّ الإشارة إلى هذه الجزئيات لا يحقّق المطلب، وإنما الكلام فيما يُدّعى أنّ السيّد أصّله ورسّخه في تراثه بنحوٍ يُحدِثُ تحوّلاً ملحوظاً في قراءة كربلاء وطبيعة التعاطي مع أحداثها، وأما الإيراد على بعض الروايات المُناقشة فهذا حاصلٌ مع السيّد وغيره، ويكاد لا يخلو منه كتابٌ حديثيٌّ أو تاريخيٌّ، ولذلك ينبغي صرف النظر إلى ما تمّ ترسيخه وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» - كذا عبّر العسر - في قراءة الواقعة؟ هذا جوابه ينبغي أن يكون بعُهدة المُدّعي بنحوٍ استدلاليّ لا بنحو «الفتوى الجاهزة».
ثالثاً: أدرج "العسر" اتّهامه للسيد ابن طاوس بإحداث «تحوّلات جوهريّة» في قراءة واقعة كربلاء في سياق المقارنة مع ما نقله السيد المرتضى في كتابه "تنزيه الأنبياء" حيث ذكر السيّدُ روايةً حاصلها أنّ سيد الشهداء (عليه السلام) عندما حوصر عرض على القوم أن يرجع إلى المدينة أو يضع يده في يد يزيد أو يسير إلى الثغور، فرُفض طلبه، ولذلك توجّه إلى القتال مؤثراً إياه على ذُلّ الاستسلام، ثم أدرج اتهامه للسيد ابن طاوس كما أسلفنا، وهنا ينبغي أن تُطرح عدّة تساؤلات منهجيّة، ومنها: لماذا اختزل العسرُ القراءة عند الطائفة الإمامية الاثني عشريّة فيما نقلَه السيّد المرتضى، لا سيّما وأننا نظفر بمنقولاتٍ أخرى لأستاذه المفيد وتلميذه الطوسي تتماشى مع الطرح الآخر والذي تبنّاه السيد ابن طاوس أيضاً؟ بل إننا نلاحِظُ أنّ تلميذَ المرتضى وهو شيخ الطائفةِ الطوسيّ يتحفّظُ على ما اختاره أستاذه ولا يوافقه عليه، ولك أن تراجع ما قاله في ذلك (انظر: تلخيص الشافي، ج4، ص189-190).
وهنا يحقّ للمنصف أن يسأل: هل متقدّمو الإمامية مختَزلون في فقرةٍ من كتابٍ للمرتضى، وأيّ خلافٍ معها سيكون «تحولاً جوهريّاً» في الطائفة الشيعيّة؟
وأمّا بالنسبة للنصوص الأخرى التي سبقت زمان السيّد ابن طاوس وكانت في زمن المرتضى، ويمكن من خلالها تدعيم ما ذهب إليه السيّد ابن طاوس، فمنها:
ما قاله الشيخ المفيد في إرشاده: (فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتابَ وجهدا به في الرجوع فقال: إنّي رأيتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله في المنام وأمرني بما أنا ماضٍ له، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثتُ بها أحداً، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتى ألقى ربّي)، انظر: الإرشاد، ج2، ص69.
وقال في موضعٍ آخر: (فقال له: يا عبَد الله، ليس يخفى عليَّ الرأيُ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره، ثم قال عليه السلام: والله لا يَدَعُونِي حتّى يستخرجوا هذه العَلَقةَ من جوفي..إلخ)، انظر: الإرشاد، ج2، ص76.
وقال أيضاً: (فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يُروك إلّا ما تُحب. فقال له الحُسين: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفِرّ فرار العبيد)، انظر: الإرشاد، ج2، ص98.
وهنا، فليتساءل القارئ: هل يجوز حقّاً اختزال قراءة متقدّمي الإمامية في القرن الثالث والرابع في روايةٍ نقلها السيّد المرتضى ثم اتّهام السيد ابن طاوس بإحداث تغيير جوهريّ قلبَ حقيقتها إلى مشهدٍ آخر؟ أم أنّ المسلك الذي سلكه السيد ابن طاوس له شواهد متوافرة في كتب المتقدّمين وأنّ اتهامه نابع عن جهلٍ وقصورٍ في التتبع والقدرة على النظر والتحليل؟!
رابعاً: حيثُ إنّ الملف التنويريّ الذي طرحه العسر هو ملفُّ فتاوى جاهزة ونتائج مسبقة لم يُشر بتفصيلٍ وتحليلٍ إلى الجوانب التي تمّ إحداث التغيير والتحوّل الجوهريّ المزعوم فيها. وفي المقام، سنفترض أنّه يشيرُ إلى تحليل السياق التاريخيّ لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام) بملاحظة الجوانب الغيبيّة التي يراها البعضُ غلوّاً أو تحريفاً لفهم المسيرة الحسينية - ويُساعدنا على هذا الافتراض ما قاله في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) أن واقعة كربلاء أضيفت إليها مسحة غيبيّة مُفرطة في القرن السابع الهجريّ -.
وبعبارةٍ موجزةٍ: دعوى العسر في حقّ السيّد ابن طاوس (رحمه الله) أنّه تسبّبَ في إدخال تحليل واقعة كربلاء إلى القراءة الغيبيّة المُفرطة، وأنّنا لو حذفنا فقرة ابن طاوس فإننا سوف نلمس فرقاً كبيراً بين ما قدّمه وبين ما قدّمه غيرُه من العلماء المتقدّمين.
وإذا كان العسر يدّعي ذلك فسوف نفترض أنّنا غضضنا النظر عن تراث السيّد ابن طاوس (رحمه الله)، فهل سيتغيّر شيءٌ بالنسبة لهذه المسألة؟ وهل سيعجزُ الباحث عن تدعيم قراءة السيّد ابن طاوس بما ذكره بعض المتقدمين؟! وكأنّ المسكين غابَ عنه الحضور المكثّف لروايات ثقات الطائفة وأجلّائها الكلينيّ وابن قولويه والصدوق وغيرهم في رفد وتعزيز ما أورده السيّد ابن طاوس ولو في الجملة؟!
خامساً: إنّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف» للسيّد ابن طاوس يمثّل عمدة ما طرحه في خصوص قضيّة سيد الشهداء (عليه السلام) وإن كان قد تعرّض لبعض الجهات في بعض كتبه الأخرى كـ«الإقبال» و«مصباح الزائر»، وإذا لاحظنا الكتاب الأوّل سوف نجدُ أنّ كثيراً مما استندَ إليه السيّد في ذكر الأحداث التاريخيّة له شواهده في كُتبٍ تقدّمت عليه زماناً، وبعضها تشتركُ في روايته المصادر الإماميّة والسنيِّة والزيديّة، فما الشيء الجديد الذي برز على يديّ السيد ابن طاوس وأحدثَ «تحوّلاً جوهريّاً» في تحليل السيرة الحسينيّة؟
ومن هنا يتبيّن لك أخي القارئ: أنّ ما طُرِحَ من كلامٍ إنشائيٍّ لا يعدو عن كونه خيالاتٍ وأوهاماً تكشفُ عن الجهل العظيم بحقيقة التراث الإماميّ أو تجاهُلٍ لخداع القرّاء، وإذا شئتَ أن تُقارن بين القراءة السطحيّة العابرة التي تعتمدُ نظام الفتوى الجاهزة والنتيجة المسبقة وبين القراءة التي تستندُ إلى الدراسة والنّظر، فانظر إلى ما قاله العسر في صفحتين خاليتين من الدليل والبرهان، ثم لاحظ ما أنتجهُ بعض الباحثين فيما يخصُّ كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف»، فقد صدرَ في سنة 1395 هـ.ش. – أي قبل أربع سنوات – كتابٌ بعنوان: «تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف» للباحث مصطفى صادقي كاشاني، وهو دراسةٌ مفصّلةٌ حول الكتاب ومنهج تأليفه ومصادره تقع في مُجلّد مؤلّف من 300 صفحة تقريباً، بالإضافة إلى ضبط مَتْنه على 57 نسخةٍ خطيّةٍ، ونحن هنا لسنا بصدد الموافقة على ما ورد في هذه الدراسة حرفيّاً، إلّا أنّه ينبغي التوجّه إلى هذا الجهد العلميّ لمعرفة طبيعة عمل السيّد ابن طاوس (رحمه الله) وبيان المزايا والمؤاخذات على كتابه في إطار التقييم العلميّ لأيّ متنٍ تراثيّ، وهذه القضيّة لا حرجَ فيها؛ إذ إنّ باب البحث والنقد مفتوحٌ، وله قيمتُه عند العقلاء ومحبّي المعرفة، أمّا إطلاق الدعاوى الفارغة فهذا لا علاقة له بالعلم والتدقيق، وليس من شأن أهل التحقيق، وإنّما يمارسُه بعض ذوي التجارب الفاشلة في تاريخهم الحوزويّ.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ الباحث كاشاني قد اختار أنّ كتاب السيد ابن طاوس متأثر بشكل غير مباشر – أي عبر النقل بواسطة – بكتابَي "الفتوح" لابن أعثم، و"المقتل" للخوارزميّ، انظر: تصحيح و منبع‌شناسى كتاب الملهوف، ص279.
ويبقى السؤال الذي ينبغي طرحه: ما هو التحوّل الذي وقع على يدي ابن طاوس وهو راجعٌ في تقرير مطالب كتابه إلى كتب متقدّمة عليه زماناً ورواياتٍ يمكن أن يؤيد كثيرٌ منها بما أورده المتقدمون في مصنّفاتهم؟! وهل حقّاً إنّ المسحة الغيبية وردت على قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ أم أنّ جذورها الروائيّة والكلاميّة موجودة في كتب المتقدّمين، -وبذلك يتبيّن أن ابن طاوس بريء العهدة من تهمة حرف مسار القراءة الشيعيّة لواقعة كربلاء-؟
إلى هنا ينتهي ما أردنا بيانه بإيجازٍ واختصارٍ، وسيأتي في المقالة الآتية توسعةٌ للبحث في الجنبة الغيبية في واقعة كربلاء والذي سيتم من خلاله تقييم دعوى بروز التحوّلات في قراءة كربلاء في القرن السابع الهجريّ، والحمد لله رب العالمين.

مدوّنة "إجابات علميّة".

الخميس، 3 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (١): سلسلة إجابات علميّة على ملف «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (١): سلسلة إجابات علميّة على ملف «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، وأهل بيته الطيبين الطاهرين، الأئمة المعصومين؛ أما بعد:-

تُقدّم مدوّنة «إجابات علميّة» للإخوة القراء سلسلةً جديدةً بعنوان: «كربلاء كما هي» وذلك تعليقاً على بعض ما ورد من مُغالطاتٍ في ملفٍ نشره ميثاق العسر أسماه «كربلاء بنظرة لا مذهبيّة»، وهذه السلسلة هي مجموعة مقالات دوّنها بعض طلاب العلم لبيان تهافت تلك القصاصات التي جمعها العسر في ذلك الملف واعتبرها "كتاباً" على طريق "التنوير"!
وقبل الشروع بهذه السلسلة، ينبغي أن نشيرَ إلى جملةٍ من الملاحظات الكليّة حول هذا الملف، وطبيعة المغالطات والحِيل المستعملة فيه، وكيفيّة تناوله في المقالات الآتية، وغير ذلك:

الملاحظة الأولى: إنّ منهج الكاتب قائمٌ في جملةٍ من الموارد على المصادرات أو الفتاوى المُهيّأة والنتائج المحسومة، حيث لم يرفد كتابته بجنبة استدلاليّة معمّقة، بل اعتمد على طريقة الكتابة الصحفيّة والأسلوب الإنشائي في صفّ الكلام، ومن الواضح أنّ الخطابيّات لا تقدّم ولا تؤخّر لمن يبتغي الدليل والبرهان، فعلى سبيل المثال: ماذا يعني أن ينسخ ويلصق في ملفّه روايةً نقلها السيد المرتضى في كتاب (تنزيه الأنبياء) ثم يكتب قائلاً: "أنا واثقٌ كل الوثوق إنّك لا تقبل بهذه القراءة التي سجّلها السيد المرتضى في السطور أعلاه؛ لأنّك لا تريد أن تخلع نظارتك المذهبيّة المنبريّة، وتراها تصطدم مع الصورة النمطيّة الكلاميّة المفرطة المرسومة في ذهنك الشيعي عن الإمام الحسين وتحركاته"! (انظر: كربلاء بنظرة لا مذهبية، ص10).
ويا للعجب! السيد المرتضى ذكرَ روايةً، سرعان ما انطلق العسر إلى توظيفها، من دون أن يُتعب نفسه، فالفتوى الجاهزة والنتيجة المسبقة أقلّ عناءً، والحقّ والإنصاف أننا إذا كنا نبتغي المعرفة الصحيحة حقاً، فيجب أن تمرّ الرواية عبر آليات التحقيق، حيث يلزم البحث حول هذه الرواية من جهة الوثوق بصدورها، ومن حيث انسجامها مع السياق التاريخي الموثوق الوارد من المصادر المعتبرة، وخلوّها عن المُعارض، و..وإلخ، كل هذا قفز عنه العسر، وتجاهلَه، وانطلق نحو الوعظ الخطابي: أيها الشيعيّ! أنت لا تقبل هذه الرواية لأنّك لا تريد أن تخلع نظارتك المذهبية؟! ما هذه التفاهة؟! هل هذا هو التنوير حقّاً؟! نسخُ رواية ثم توظيفها مباشرةً دون بيان أي مقدمات تتوسط هذا التوظيف؟ فلنفترض أنني لا أقبل بهذه الرواية التي نقلها السيد المرتضى، ولديّ مبرراتي الموضوعية وأدلّتي العلميّة التي ساقتني إلى القول بضعف الوثوق بها؛ اعتماداً على أدلةٍ وبراهين علميّة مُحكمة، هل سيكون جزاء بحثي ونظري أن أُتّهم بأنني متعصّب لمذهبي كيفما كان؟! أليست هذه محاولة لترهيب نفوس القراء وتنفيرهم من تلك النتيجة بمثل هذه الدعاية الفارغة؟! أو لنفرض أنني أقبلُ الرواية التي ذكرها السيّد المرتضى، ولكني قمت بقراءتها بنحوٍ مغايرٍ، فما ربطُ ذلك بالنظّارة المذهبية؟! 
ولهذا نظائر أخرى، فما كتبه تحت عنوان "كربلاء وصورتها النمطيّة، ص7"، "ما الذي استفدناه ونستفيده من كربلاء، ص11"، "المقولات الكلامية وذبحها لمظلومية الحسين، ص22"، "تأملات في اندراج اللطم المعاصر تحت عنوان الجزع المأثور، ص26"، "تبريرات ما بعد الوقوع، ص43"، "الوجه التوحيدي المغيّب للأئمة، ص63"، "محرمات الحرم والإحرام في زيارة الأربعين، ص67"، كل هذه وغيرها مما لا نذكره تجنّباً للإطالة ليس إلّا كلاماً إنشائيّاً ومصادرات بنتائج جاهزة. ولعلّ ما يدفعُه لممارسة مثل هذا الأسلوب هو اعتماده على أنّه يتكلّم بلسان شيعيّ من الدّاخل، فيظنّ أن ذلك لافتٌ للنظر وله قيمة عند الناس باعتبار سابقته الحوزويّة - رغم عللها وفشلها -، مع أنّ كل ما تقدّم منه مبنيّ على إنشاءٍ خَطابيّ، فضلاً عما في نقده مما لا يمتّ لمباني التشيّع بصلة، بل أحياناً لا يمتّ للإسلام بصلة، فبعض إشكالاته لا يقدرُ الوهابيّة أنفسهم على التفوّه بها، وإنما يقدرُ على التفوه بها أصحاب المنهج الماديّ الذي لا يؤمن بما وراء الطبيعة.
الملاحظة الثانية: لقد صنّف ميثاق العسر "كتابه" على أساس أنّه قراءة لكربلاء بنظرة لا مذهبيّة، وأنّه "بحوث تنويريّة" في حين أننا لا ندري أين هي البحوث؟! وهل كل مَنْ نسخ منشوراته الفيسبوكيّة ولصقها في ملف وطبعه وأسماه "كتاباً" جازَ له أن يسمّيها "بحوث"؟! لعلّ الرجل بما له من سابقةٍ حوزويّة فاشلة وجهل أكاديميّ قد نسي ضابطة "البحوث"، وإذا كانت هذه المنشورات الفيسبوكيّة تسمى "بحوثاً"، فما أكثر الباحثين! تخيّل أنّك تقوم بجمع بعض الاقتباسات من عدة كتب ثم تعلق عليها بأسلوب المصادرة والنتيجة المسبقة، ثم تقدّم ذلك للقراء على أنّه "بحوث"! ألا يعي البعض ما في هذا من استخفافٍ بالعلم والقراء؟ لعلّ مكوثه في "لندن" قد أنساه الصبغة الأكاديمية أو الحوزويّة للبحث العلمي، فتردّى حتى صارت مجموعة منشورات خطابيّة لا تؤثّر إلا في بعض الضعفاء "بحوثاً تنويريّة"! 
الملاحظة الثالثة: إنّ تصنيف الكتاب بأنه "بحوث تنويريّة" لقراءة مغايرة لواقعة كربلاء يوحي للقارئ بأنّ هذه "البحوث" سوف تتناول لبّ الواقعة وأصولها وما يمسّ عمق الإيمان الشيعيّ بها، إلا أنّ شغف العسر بتجميع منشوراته الفيسبوكيّة قد أنساه ذلك، فأدخل فيه ما لا يتعلق بالنظرة إلى كربلاء، ولا يمسّ بها أصلاً ولا فرعاً، فلا ندري ماذا سيتغير – على المستوى المعرفي أو التنويريّ – إذا قال لي ميثاق العسر أنّ بيتين من الشعر ليسا لفلانٍ وإنما لغيره أو أنّ عبارة لشريعتي تمّت ترجمتها بشكل خاطئ. وهكذا أخذت مجموعة من المنشورات مساحةً من "بحوثه التنويريّة العميقة" من دون أن يكون لها أيّ أثرٍ معرفيّ في قراءة كربلاء وطبيعة النظر إليها، ومن هذه النماذج: "ملاحظات المطهّري على كتاب الشهيد الخالد، ص23"، "تأملات في نسبة قصيدة كربلاء للشريف الرضي، ص36"، "علي شريعتي وظلم الترجمة، ص50".
وبناءً على ما تقدّم: لن تتعرض سلسلة المقالات لهذه المنشورات ونظائرها، فهي لا تقدّم ولا تؤخّر بالنسبة إلى قراءة واقعة كربلاء، وإنما سنتعرّض لبعض النقاط التي تحتاج إلى إيضاحٍ لوضع الأمور في سياقها الصحيح وإخراجها من فضاء المغالطات والتهويلات السخيفة.
الملاحظة الرابعة: إنّ من يعرفُ "ميثاق العسر" يعلمُ أنّ تجربته الحوزويّة السابقة المثقلة بالفشل والخيبات المتوالية لها أثرٌ كبيرٌ في اندفاعه نحو الكتابة للإساءة إلى المذهب الشيعيّ والحوزة العلميّة خصوصاً، ولذلك نرى في ملفّه "التنويري" الذي قام بتجميعه جملةً من العبارات التي تحملُ انفعالاً وتهويلاً وتضخيماً لواقع الأمر، ولا سيّما في المواضع التي تتعلق بالحوزة العلميّة، ومن ذلك قوله (ص10): "فإنّ هذا الأمر سيفتحُ لهم آفاقاً كثيرةً سعت النخب الدينية لأجيالهم السابقة إلى التعتيم عليها.."، وهذا طبعاً من المضحكات المُبكيات، فإنّ ميثاق العسر لما كان "نخبةً دينيّة" لم يؤثر عنه في تاريخه وسجلّه الحوزويّ أيّ سعيٍ في الأمرِ الذي يُطالب به، بل كان موظّفاً في إدارة مكتب أستاذه الحيدري يمارس الكذب والتزوير مراراً، وقد اعترف بنفسه أنّه قام بتسويق مرجعيّة أستاذه رغم علمه بعدم أهليّته من جهة الفقاهة (راجع ما قاله هنا) فمن الذي كان يمارس التعتيم على عامّة الناس؟! وفي ذلك السياق أيضاً قام بتزوير بعض تسجيلات أستاذه ليُخلّصه من تبعاتِ بعض العبارات التي تفوّه بها وسببت له حرجاً في الوسط الحوزويّ، (راجع الموضوع بتمامه هنا)، فمن كان له مثل هذا التاريخ من تسويق رجلٍ كان يقطع بعدم فقاهته، وممارسة التزوير وخديعة عوام الناس ثم يتّهم غيره بذلك فهنا يصدقُ عليه المثل القائل: "رمتني بدائها وانسلّت"، فعلى الأقل من كذبَ وزوّر وخدعَ النّاس عليه أن لا يتّهم غيرَه بما فيه!
ومن ذلك قوله: "هل عمدتم في داخل الأروقة الحوزويّة إلى التفكير الجادّ في كيفيّة الحفاظ على دين الناس وإيمانهم، أم إنّ شغلكم الشاغل في هذه الأيام يتمحض في الطبخ والتحضير لخليفة السيد السيستاني... لا نصدّق بحرصكم وخوفكم على دينِ الناس إلا بعد أن تسحقوا على الأنا الحوزوية المستفحلة في نفوسكم بمختلف الصياغات والوصايات"، وفي الواقع لا نعلم هل فعلَ العسر شيئاً مما يقوله خلال مسيرته الحوزويّة؟! ما نعرفه أنّه كان بوقاً في مكتب أستاذه الحيدريّ، يطبّل له، يزوّق مرجعيته، يجمع المال، ويبني دنياه، ولمّا اختلف معه حول الأمور المالية وغيرها قام بأخذ نصيبه من المال، وانصرف إلى لندن للتشكيك بالتشيع، ومن تكون له مثل هذه السيرة كيف له أن يتصنّع صفة الواعظ المُشفق إلا أن يكون ذئباً؟!
ومع ذلك للمتابع أن يتساءل: ما هو "دين الناس" أصلاً الذي تُظهر نفسك بمظهر المشفق عليه وتريد حفظه؟ فأنتَ لم تُبقِ قولاً بالإمامة ولا أبقيتَ حرمةً للقرآن والنبوّة، وقد انجررتَ إلى مقولاتٍ لا تبقي للتقيد بالتعاليم الدينيّة قيمةً، فما هو الدين الذي تدعو للحفاظ عليه؟! لا سيّما وأنك مذ شرعت بالكتابة، وعشرات المتابعين يطالبونك بتقديم البديل الذي ينبغي الاعتقاد والتديُّن به وأنتَ تتجاهلهم. مع أنّ التفكير الماديّ الذي يلائم كل شيءٍ خلا الأديان قد أصبح جلياً في كلماتك.. إذن: لا معنى لمثل هذه المطالبات منه، إلّا أن مرجع ذلك إلى إرادته التشنيع على العلماء، وإلا فهو لا تعلّق له بالتشيّع ومصالحه من قريب أو بعيد.
ومن ذلك أيضاً: تساؤله في (ص68): "لماذا لا يربي المراجع والخطباء الحمام الراعبيّة"، وذلك بعد أن ذكرَ روايات تدل على لعن الحمام الراعبية قتلةَ الحسين عليه السلام والحثّ على اتّخاذها في البيوت.. ولا أدري هل قام العسر بتفتيش بيوت المراجع والخطباء، أم أنّه يريد أن يؤاخذهم على كل صغيرة وكبيرة؟ وأيُّ شيءٍ هذا من التنوير في قراءة كربلاء؟! هذا ونظائره من السّخافات الطفوليّة كفيلٌ بأن يصوّر للقارئ المستوى أو الأفق الذي يفكّر به "العسر"، فهو أسيرٌ لأزمته النفسيّة الحادّة تجاه الحوزة وتجربته السابقة فيها، وكلما أراد أن يحلّق بعيداً بقي مكبلاً بتلك العُقَد النفسيّة العميقة التي لا تكاد تُفارقه! 
إننا نُدرك عمق هذه الأزمة النفسيّة التي سببتها انتكاسةُ تجربته الحوزويّة الفاشلة مع أستاذه "الحيدري"، ولكن من الواضح أنّ على من يريد طرح "بحوث تنويريّة" أن لا يسأل المراجع والخطباء عن تربية الحمام والدجاج والبطّ، وعليه أن ينشغل بما يتعلّق بأصول القضية التي يبحث فيها وما يمسّ جوهرها، أما هذه التفاهات فينبغي أن تُحسب ضمن في باب الفُكاهة!

"مدوّنة: إجابات علميّة".

السبت، 11 يوليو 2020

كلامٌ حول سلخ رأس سيّد الشهداء (عليه السلام)


بسم الله الرحمن الرحيم
كلام حول سلخ رأس سيد الشهداء (عليه السلام)

شُبهة ميثاق العسر للطعن في الشيخ الجواهريّ (رحمه الله)


وفي التعليق على هذه الشبهة، كتبَ الشيخُ إبراهيم جواد في صفحته الشخصيّة:

لا يخفى على منصفٍ أنّ التحقيق والتّتبع له ثمنه، فهو يستهلك كثيراً من الوقت والجهد، وهذا الأمرُ له أهله الذين خاضوا غمار الكتب، ورتعوا بين أوراقها، وانطبعت متونها في عقولهم وقلوبهم، حتى أصبحَ القول بغير نظرٍ ذنباً عظيماً عندهم، يخجلُ منه كل ذي حياءٍ، ولكن في زماننا الحاضر، استغلّ بعض (الفيسبوكيّين) بُعد كثيرٍ من النّاس عن مصادر التحقيق وتتبع الأدلّة فتوهّموا أنّهم قادرون على الكذب والافتراء، وانطلقوا شاهرين سيف التكذيب والإنكار بغير علم، يحرّكهم في ذلك حقدهم على الفقهاء الأتقياء، وغيظ قلوبهم منهم، وامتلكوا من الوقاحة ما يجرّؤهم على نسبة الكذب والافتراء إلى فقهاء عُرفوا بالورع والتقوى. وفي هذا السياق، كتب المتملّقُ المرتزِق بالكذب، ميثاق العسر مشكّكاً فيما ذكره الشيخ الجواهريّ عن سلخ رأس سيد الشهداء (عليه السلام)، متهماً إياه بالعمل في إطار تشريع الكذب، ويا لقلّة الحياء، كيف لمن اعترفَ يوماً بأنّه قام بالكذب والتزوير لصالح مرجعيّة أستاذه المتهاوي في وحل الضلال أن يملك من الجرأة ما يتهم به الثقات الأمناء بالكذب وتشريعه؟ لا نعلم، لعلّه نسي هذه المقالة التي اعترف فيها بالتلاعب ببعض التسجيلات وتزويرها لإخراج أستاذه الحيدريّ من مأزق الإحراج. راجع هذه المقالة: (اضغط هنا).

أمّا بالنسبة لما نُقل عن الشيخ الجواهري، فإنّه قد روى جملةٌ من علمائنا الأعلام رواياتٍ حول تعرض أحد الأنبياء (عليهم السلام) لسلخ فروة رأسه ووجهه، ثم قال في ذلك أنّه يصبر على ما يصيبه تأسّياً بالحسين صلوات الله عليه، وهذه هي الروايات:
١. روى الشيخ ابن قولويه القمّي: (حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف، عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن الحسين بن أبي الخطّاب ويعقوب بن يزيد جميعاً، عن محمد بن سنان، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إنّ إسماعيل الذي قال الله تعالى في كتابه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) لم يكن إسماعيلُ بن إبراهيم -عليهما السلام- كان نبياً من الأنبياء بعثه الله إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه مَلَكٌ عن الله تبارك وتعالى، فقال: إنّ الله بعثني إليك فمُرني بما شئتَ. فقال: إنّ لي أسوةً بما يُصنع بالحسين عليه السلام).
المصدر: كامل الزيارات، ص١٤٦، رقم الحديث ١٦٠، الباب١٩، ح١.
ورواه الشيخ الصدوق في كتابه: (علل الشرائع، ج١، ص١٠٤، الباب ٦٧، ح٢).

٢. وروى أيضاً: (وحدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عنهما جميعاً، عن محمد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إنّه كان لله رسول نبيّ، سلط عليه قومه فقشروا جلدة وجهه وفروة رأسه، فأتاه رسول من رب العالمين، فقال له: ربك يقرئك السّلام ويقول: قد رأيتَ ما صُنِعَ بك، وقد أمرني بطاعتك، فمرني ما شئت. فقال: يكون لي بالحسين أسوة).
المصدر: كامل الزيارات، ص١٤٧، رقم الحديث١٦١، الباب ١٩، ح٢.
ورواه الشيخ الصدوق في كتابه: (علل الشرائع، ج١، ص ١٠٤، الباب ٦٧، ح٣).
ورواه الشيخ المفيد بإسنادٍ آخر عن سماعة بن مهران في أماليه، المجلس الخامس، ح٧.

٣. وروى أيضاً: (حدثني محمد بن الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه، عن جدّه علي بن مهزيار، عن محمد بن سنان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن إسماعيل الذي قال الله تعالى في كتابه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) أُخِذَ فسُلِخَتْ فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملك، فقال: إنّ الله بعثني إليك فمرني ما شئت. فقال: إنّ لي أسوةً بالحسين بن علي عليه السلام).
المصدر: كامل الزيارات، ص١٤٨، رقم الحديث ١٦٣، الباب١٩، ح٤.

٤. وروى القطب الراونديّ عن الشيخ الصدوق روايةً مسندةً بلفظ مغاير، قال: (وبإسناده في روايةٍ أخرى، قال: إنّ إسماعيل الذي سُمّي «صادق الوعد» ليس هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، أخذه قومه فسلخوا جلده، فبعث الله إليه ملكاً فقال له: قد أمرت بالسمع والطاعة لك، فمُر فيهم بما أحببت. فقال: لا، يكون لي بالحسين عليه السلام أسوةً).
المصدر: قصص الأنبياء، ج٢، ص٩، رقم الحديث ٢٦٢.

أقول: الناظرُ في دلالة هذه الأخبار يرى أنّها تدور بين وجهين:
الوجه الأوّل: أنّ المشار إليه في كلام ذلك النبيّ (عليه السلام) هو المواساة في أصل المصيبة لا بنحو تمام أفرادها الجزئيّة، وذلك حاصلٌ بالتعرّض للقتل والجراحات بشكل عام.
الوجه الثاني: أنّ المقصود هو المواساة في تمام الجزئيّات، فهو مواسٍ للإمام الحسين (عليه السلام) في كل جزئيّة حتّى في سلخ فروة رأسه، فيثبت بذلك ما ذهب إليه بعض الأعلام.
فإذا بنينا على الوجه الأوّل لا يمكن الاستدلال بها على وقوع السّلخ بالنسبة لسيد الشهداء (عليه السلام)، أما إذا استظهرنا الوجه الثاني وبنينا عليه فهو مثبتٌ لحدوث السّلخ، وهذا الوجه يُعدّ ضمن الاحتمالات البازرة التي يمكن احتمالها وربّما يُدّعى ظهورها إنْ بنينا على كون تلك العبارة بلحاظ التنزيل من تمام الجهات، والجديرُ بالذّكر أنّ الشيخ جعفر التستريّ قد استدلّ بها على وقوع السّلخ كما ذهب إليه الشيخ الجواهري فقال في حقّ إسماعيل صادق الوعد (عليه السلام): (فهو المتأسّي بالحسين عليه السلام في سلخ فروة الوجه فقط في الجملة)، انظر: الخصائص الحسينيّة، ص٥٠٩.

ويتحصّل مما ذكرناه: أنّه قد اتضح رجحانُ كونِ كلام الشيخ الجواهريّ مستنبَطاً من تلك الروايات، بغضّ النظر عن صحّة النتيجة التي تبنّاها، وإنما الذي نريد تسليط الضوء عليه – وهو المهمّ – أنّ الشيخَ لم يكذب ولم يختلق ولم يبتكر فريةً كما زعم ذلك المتلوّن المنحلّ، فما هو المبرّر لمثل هذا التهجّم الوقح والجسارة البذيئة؟
لقد ظهر بوضوح أنّ هذا (الفيسبوكيّ) ليس وارداً في أجواء فهم الفقهاء واستنباطاتهم، وبسبب ذلك غاب عنه أنّ الشيخ الجواهريّ قد تكلّم معتمداً على المصادر التي يعتمدها أهل العلم والتحقيق، ومع ذلك اتّهمه المرتزق المتلوّن بالكذب، بينما اعتمد هذا الفاجر الأفّاك على جهله وقلّة تفرّغه لمطالعة أحد أهمّ الكتب الأساسيّة في قضيّة مقتل سيد الشهداء (عليه السلام) ككتاب كامل الزيارات للشيخ ابن قولويه القميّ، وحسبُك هذا التفاوت بين أهل العلم وأهل الحقد الجاهلين الذين يفترون على الفقهاء الأمناء الكذبَ ثم يتهجمون عليهم، وقد خيّبَ الله سعيهم وفضح جهلهم، والحمد لله رب العالمين.

• هامش:
يتقطّع القلب وتضطرب الحواسّ لمجرد الحديث عن ذكر احتمال أنهم سلخوا جلد رأس ريحانة رسول الله، وحبيبه، وقلبه، وروحه التي بين جنبيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ابتلينا بمن يريد التسلق للدنيا بتوظيف مظلومية سيد الشهداء عليه السلام وجعلها مادة للتشكيك، وموضعاً للنيل من الخصوم وتصفية الحسابات وتفريغ الأحقاد، نعوذ بالله من اللقمة الحرام وآثارها الوضعيّة.

الجمعة، 10 يوليو 2020

نقض شبهة تحريف الصدوق رواية ابن جندب في سجدة الشّكر


بسم الله الرحمن الرحيم
نقض شبهة تحريف الصدوق رواية ابن جندب في سجدة الشّكر

بقلم الشيخ: محمّد البحرانيّ.

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، أما بعد:-
كتب ميثاق العسر - نزيلُ لندن - مقالاً بعنوان (ضحايا الصدوق وضحايا الصدق) حاول أن يُبرز فيه ما يؤيد مزاعمه بشأن دعوى قيام الشيخ الصدوق (رحمه الله) بتحريف بعض الروايات، وفي هذا المقال سوف نشيرُ إلى تقرير هذه الشبهة والجواب عليها ببيان بعض النكات العلميّة إن شاء الله تعالى.

أولاً: تقرير الإشكال.
[1] روى الشيخ الكلينيّ: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن جندب، قال: سألت أبا الحسن الماضي (عليه السلام) عمّا أقول في سجدة الشكر فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال: قل وأنت ساجد: «اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك الله ربي، والإسلام ديني، ومحمداً نبيي، وعلياً وفلاناً وفلاناً - إلى آخرهم - أئمتي بهم أتولى ومن عدوهم أتبرأ..إلخ) (1).
[2] ونقل الشيخ الطوسيّ هذه الرواية بهذا النحو في كتابه (تهذيب الأحكام)(2).
وظاهر هذه الرواية عند الكليني والشيخ أنّها لم يُذكر فيه أسماء الأئمة جميعهم ولا سيّما المتأخرين منهم (عليهم السلام).
ولكن اللافت للنظر أنّ الشيخ الصدوق حينما أورد هذه الرواية في كتابه (من لا يحضره الفقيه) ذكرها بهذا النحو: (تقول في سجدة الشكر: اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبيائك ورسلك وجميع خلقك إنك أنت الله ربي، والإسلام ديني، ومحمداً نبيي، وعلياً والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجة بن الحسن بن علي أئمتي بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ..إلخ)(3)، وهذا يعني أنّ الشيخ الصدوق قام بالتصرّف في متن الرواية وأضاف إليه أسماء الأئمة المتأخرين، فهذا تحريفٌ منه للروايات لصالح مسلكه العقائديّ الذي تبنّاه.
وكذلك مما ينبغي أن يُلاحظ أنّ الشيخ الطوسيّ قام بذكر النصّ بالنحو الذي سرده الشيخ الصدوق في كتاب (مصباح المتهجّد)(4)، فأورد فيه أسماء الأئمة المتأخّرين.

ثانياً: تبصرة وإضاءة.
ولعلّك تظنُّ أيّها القارئ الكريم أنّ (ميثاق العسر) من أهل البحث والتحقيق، وقد تعقّب تراث الصدوق باستيعابٍ ليخرج بهذه النتيجة، ولكن يزول عنك هذا الظنّ بمجرّد أن تعلم أنّه سارقٌ متطفّل على كتاباتِ غيره، ويبدو أنّ معاشرته لأستاذه سيّئ الخُلق كمال الحيدريّ قد أوقعتُه في التلبّس بهذه الخصلة من حبّ التطفل والعيلولة على أبحاث الآخرين. وفي الواقع، إنَّ هذا الإشكال مأخوذ من كتابٍ لسلفيّ وهابيّ اسمه (فريد البحرينيّ)، انظر: تحريفات الصدوق، ص38-39، الناشر: مكتبة الرضوان-البحيرة/جمهورية مصر العربيّة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 2018م.
وهكذا ديدنه في كثيرٍ من الإشكالات التي ذكرها سابقاً؛ فقد كان فيها مجرّد صحفيّ يقوم بإعادة تدوير تلك الإشكالات بقلمه، وإلا فليس له في بحثها نصيب، ومن كان ديدنُه التطفّل على أبحاث الوهابيّة وغيرهم لن يغيّر عادتَه بسهولةٍ.


ثالثاً: الجواب على الشبهة.
إنّ اتّهام الشيخ الصدوق بهذه التهمة ناتجٌ عن عدم فهم طريقة الشيخ في تصانيفه المتعددة، وبشكل أدقّ: ناتجٌ عن عدم فهم الفارق بين منهجه في كتاب (من لا يحضره الفقيه) ومنهجه في سائر كتبه الحديثيّة، ولبيان هذا الفرق نقول: مما لا شكّ فيه أنّ من وظيفة المحدِّث أن ينقل الأحاديث التي يرويها كما هي بأمانةٍ من دون أن يتصرّف في متنها تصرفاً مُخِلّاً يوجب تحريفاً لمدلول الحديث أو إبهاماً وما شاكل ذلك، وهذا هو ديدنُ الشيخ الصدوق في كتبه الحديثيّة، إلّا أنّ الخطأ الذي وقع فيه المستشكلون على الشيخ أنّهم تعاملوا مع كتاب (من لا يحضره الفقيه) على أنّه كتابٌ حديثيٌّ دون أن يلحظوا الحيثيّات والخصوصيّات الأخرى فيه. نعم؛ هذا الكتاب يتضمّن آلاف الأحاديث المرويّة عن المعصومين (عليهم السلام)، ولكنّه لا يُعتبر كسائر الكتب الأخرى التي تمحّضت هويّتها في نقل الحديث فقط، بل هناك جملة من الخصوصيّات التي أثّرت على طريقة صياغة الكتاب ومحتوياته، ومن ذلك:
الخصوصيّة الأولى: أنّ الكتاب هو عبارةٌ عن مصنَّفٍ ألّفه الشيخ الصدوق وفقاً لمبانيه وآرائه العقائديّة والفقهيّة، فقد قال في مقدّمته: (ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أُفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي - تقدّس ذكره وتعالت قدرته-)، وهذا يجوّز له – بناء على القول بالتبعيض في الحجيّة – أن يزيل بعض الفقرات التي يراها مفتقرةً إلى قرائن الوثوق، كما يسوّغ له الشرح والبيان، ولذلك عُرفت روايات كتابه هذا بوقوع مشكلة الإدراج فيها وعدم تمييز ما أدرجه الشيخ في بعض المواضع، فكأنّ الكتاب أقربُ إلى المزج بين الرواية وفَهْمِ الشيخ لها من سائر القرائن الأخرى. ولذلك لا معنى للإشكال على الشيخ إذا قام بحذف بعض الفقرات التي يراها مُشكلةً وغير موثوقة أو أدرج بعض البيانات الإيضاحيّة اعتماداً على القرائن الموثوقة عنده؛ لأنّه أراد أن يذكر في كتابه ما يراه حجّة عنده، ولم يجعل الكتاب لنقل الرواية بشكل محض، وإنما أراد أن يُقدّم عرضاً لما يراه حُجّة من الروايات وفقاً لمبناه واختياره، فأضاف من البيان والتفسير ما يوضِّح قولَه وفتواه، وهذا المقدار من الإدراج لا يوجب رفع اليد عن الاعتماد على روايات الكتاب، فإنّ تمييز ذلك متيسّر لذوي الخبرة بالحديث.
الخصوصيّة الثانية: إنّنا نعلم أنّ هناك كُتباً صُنّفت لنقل الحديث دون أيّ تصرّف زائد، وهذه نُسمّيها بـ«كتب الرواية»، وأنّ هناك كُتباً لم تصنّف لنقل الحديث لأهله من عالمٍ ومُتعلّم، وإنما صُنِّفت للعمل لتكون بين يديّ عامّة الناس للاستفادة العمليّة منها ولا سيّما كتب الفقه والأدعيّة، وهذه نسمّيها بـ«كتب العمل»، ومنهج المحدّثين الثقات في تصنيف «كتب الرواية» قائم على نقل الرواية بحذافيرها دون أيّ تصرّفٍ يوجب اختلالاً أو تشويشاً، ولكنّهم في «كتب العمل» يقومون بالتصرّف في المتن بإضافة زياداتٍ إيضاحيّة تسهيلاً على المتفقّه أو المتعبّد بما تقتضيه طبيعة الحال، ومن هذه الكتب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، فإنّه بلحاظ ما ذكرناه ليس من القسم الأوّل «كتب الرواية»، وإنما هو من القسم الثاني «كتب العمل» ولذلك نلحظُ هذه الزيادات الإيضاحيّة فیه.
ويدلُّك على هذه التفريق بين المنهجين أنّ المستشكل قد ذكر شاهداً مؤيّداً لما نقوله – وهو عليه لا له لو كان من أهل التأمّل والفهم – فقد أشار إلى أنّ الشيخ الطوسيّ ذكر الرواية في كتابه (تهذيب الأحكام) بدون ذكر أسماء الأئمّة (عليهم السلام)، أي أنّه لم يتصرّف تصرفاً مُخلّاً ولم يقم بإضافة أيّ زيادة، وهذا لأنّ كتاب التهذيب من «كتب الرواية»، وفي نفس الوقت أشار إلى نَقْل الشيخ الطوسي للرواية نفسها في كتابه (مصباح المتهجّد) وقام بالتصرّف في متنها بذكر أسماء سائر الأئمة (عليهم السلام)، وهذا لأنّ كتاب المصباح من كتب العمل، وفي هذا المقام، هل سيقول إنّ الطوسيّ في تهذيبه أمينٌ في نقله، وفي مصباحه محرّف للرواية؟!
وهذا التفريق بين منهجَيْ تأليف كتب الرواية وكتب العمل ملحوظ في كتب العلماء المحدّثين، وتوجد نماذج متعددة لذلك نذكر منها:
النموذج الأوَّل: وهو تطبيقٌ يُظهِرُ الفرق بين المنهجين بملاحظة عمل السيّد ابن طاوس (رحمه الله)، فقد روى الكلينيّ: (محمد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليه السلام) قال: تُكرّر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء ساجداً وقائماً وقاعداً وعلى كل حال وفي الشهر كله وكيف أمكنك ومتى حضرك من دهرك تقول بعد تحميد الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم كن لوليك فلان بن فلان في هذه الساعة، وفي كل ساعة وليّاً وحافظاً وناصراً ودليلاً وقائداً وعوناً وعَيْناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً)(5)، وقد ذكر السيّد ابن طاوس هذا الدعاء في كتابه (الإقبال) بهذا اللفظ: (وكرر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان قائماً وقاعداً وعلى كل حال، والشهر كله، وكيف أمكنك، ومتى حضرك في دهرك، تقول بعد تمجيد الله تعالى والصلاة على النبي وآله عليهم السلام: اللهم كن لوليك، القائم بأمرك، الحجة محمد بن الحسن المهدي عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام في هذه الساعة وفي كل ساعة..إلخ)(6)، فتلاحظ أنّه قام بالتطبيق والبيان عبر إضافة هذه الزيادة الإيضاحيّة.
وهنا يظهرُ الفارق، فإنّ كتاب (الكافي) للكلينيّ من «كتب الرواية»، بينما كتاب «الإقبال» له جنبةٌ عمليّةٌ، وليس كتاباً لنقل الأحاديث وسردها فقط، بل هو من الكتب التي صُنّفت للعمل، ولذلك يُتاح للمصنّف أن يقوم بالإضافة والبيان تسهيلاً على العامِل من متفقّه أو متعبّد.
النموذج الثاني: وهو تطبيق للتفريق بين المنهجين المذكورين عند العلامة المجلسيّ. فقد روى في بحاره نقلاً عن الكافي: (...، عن الحسين بن ثوير وأبي سلمة السراج، قالا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يلعن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال، وأربعاً من النساء: فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ ومعاوية –ويسمِّيهم-، وفلانة وفلانة وهند وأم الحكم أخت معاوية)(7)، وهذا النقلُ مطابق لما في الكافي الشريف من عدم ذِكر المراد بـ(فلان وفلان) و(فلانة وفلانة)، وهذا لأنّ (بحار الأنوار) من «كتب الرواية»، فلا تصرّفَ ولا زيادة، ولكنّه لما ألّف كتابه «مقباس المصابيح» - وقد ألّفه بعد تأليف البحار- ذكر هذه الرواية بعينها وقام بالتصريح بأسماء المُبهمين بـ(فلان) و(فلانة)(8)، وهذا لأنّ كتاب المقباس ليس من كتب الرواية وإنما هو كتب العمل.
فهذه ثلاثة نماذج عن ثلاثة من المحدّثين: الطوسيّ، ابن طاوس، المجلسيّ، وقد لاحظنا طريقة عملهم في تصنيف كتب العمل وكيف كان منهجهم قائماً على التصرّف وإضافة الزيادات الإيضاحيّة بهدف التسهيل والبيان، خلافاً لما هو المتعارف عليه في تصنيف كتب الحديث من الالتزام بالنقل بضبط وإتقان.
إذا اتضح هذا، فإنّ تصرّف الشيخ الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه) قد جاء جرياً على منهج تصنيف كتب العمل، خلافاً للمنهج المعمول به في تصنيف كتب الحديث، ومنشأ الخطأ أنّ المستشكلين أرادوا محاكمته بناءً على أنّ كتابه هو كتابٌ حديثيّ متمحّض في نقل الرواية فقط، وهو خلاف ما عرفتَ. بل وأكثر من ذلك، إنّ جُلّ ما يُستشكل به على الشيخ الصدوق ناظرٌ إلى تصرّفاته في كتاب (من لا يحضره الفقيه)، وهو كتاب ذو خصوصيّتين -كما أسلفنا - تخرجانه عن حيّز كتب الحديث المحضة وتجعلانه في كتب العمل المقيّدة بقيد الصحّة والاعتبار، ولجهل المستشكلين بهذه النكات المتعلّقة بخصوصيّات الكتاب عاملوه كما لو أنّه كتاب حديثيّ يهتمّ بنقل الحديث فقط دون أن يعبّر عن اختيارات المؤلّف ومبانيه، ودون التفاتٍ إلى المقاصد العمليّة التي استلزمت الإدراج والإضافات الإيضاحيّة.

فإنْ قِيْلَ: إنّ إثبات تصرّف الصدوق في بعض الروايات يُثبت مطلوبَنا في التوقّف في ما تفرّد بروايته؛ لاحتمال أنّ بعض ما فيها من تصرّفه البياني والإيضاحيّ.
قلنا: إنّ ما قدّمناه في الجوابِ لا يُثبت مطلوبَ المستشكل بهذا النحو، فإنّه يريد أن يُلزمنا بالتوقّف في كافّة متفرّدات الصدوق في جميع كتبه، وما ذكرناه آنفاً يتعلّق بكتابه الفتوائيّ (من لا يحضره الفقيه) فقط، ولا ينطبق على سائر كتبه الروائيّة، فما الدليل على تَسرية الحُكم إلى سائر كتبه التي لم يثبت أنّها زاد فيها بياناته الإيضاحيّة بالنحو الذي طبّقه في كتاب (من لا يحضره الفقيه)؟!
وأما بالنسبة لروايات كتابه (من لا يحضره الفقيه) فإنّ المشكّك لم يأتِ بجديدٍ في هذا الباب، حيثُ إنّ الفقهاء ملتفتون إلى مسألة الإدراج الإيضاحيّ أو التطبيقيّ في بعض روايات الفقيه، ويلحظون ما يحتملون فيه ذلك خلال استنباطهم، وربما استثنوا بعض المقاطع التي يُرجّحون كونها من تفسير الصدوق وتطبيقه على المورد، والأمر لا يُشكّل عائقاً أمامهم، ومن النماذج التي تبيّن التفات الفقهاء إلى مسألة الإدراج البيانيّ ومعالجتها خلال البحث الفقهيّ:
[1] ما قاله الشيخ محمد تقي المجلسي في تعليقه على رواية لفظها: (وما من سفرٍ أبلغ في لحمٍ ولا دمٍ ولا جلدٍ ولا شعرٍ من سفر مكّة، وما من أحد يبلغه حتى تلحقه المشقّة، وإن ثوابه على قدر مشقته)، قال رحمه الله: («وما من سفرٍ...إلخ» رواه في الصحيح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من سفر أبلغ (أي أسعى) في ذوبان لحم ولا دم ولا جلد ولا شعر من سفر مكة وما أحد يبلغه حتى تناله المشقة، وأن ثوابه على قدر المشقّة»، وكأنَّ الزيادة من الصدوق..إلخ)(9)، ويقصد بذلك: الزيادة في ذيل الحديث (وأن ثوابه..إلخ).
[2] ما قاله السيد محمد جواد العامليّ في (مفتاح الكرامة): (وروى في «الوسائل» عن الصدوق أنّه روى بإسناده عن ابن فضّال عن ابن رباط عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: العهدة فيما يفسد من يومه مثل البقول والبطّيخ والفواكه يوم إلى الليل. والظاهر أنّها زيادة من الصدوق وإلاّ فالشيخ قد روى ذلك الحديث بالإسناد المذكور من دون الزيادة المذكورة، والرواية وإن كانت مرسلة لكنّ عليها فتوى الشيخ وأتباعه..إلخ) (10).
[3] ما قاله الشيخ الأنصاري في مكاسبه: (ويشهد له قول علي بن الحسين عليهما السلام في مرسلة الفقيه الآتية في الجارية التي لها صوت: "لا بأس لو اشتريتها فذكَّرتْكَ الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء"، ولو جُعِلَ التفسير من الصدوق دلًّ على الاستعمال أيضاً) (11).
[4] ما قاله السيّد محمد الروحاني: (والذي نستند إليه في التوقف عن العمل برواية الصدوق (رحمه الله) هو وجهان، الوجه الأول: الوثوق أو قوة احتمال كون كلمة: "في الإسلام" زيادة من الصدوق لا قولاً للنبي – صلى الله عليه وآله -)(12).
وبذلك ترى أنّ الفُقهاء لا يجدون حرجاً في التوقّف في العبارات التي يطمئنون أنها من تفسير الصدوق وتطبيقه، والأمرُ يجري في الروايات العقائديّة كذلك.
ويتحصّل مما ذكرناه:
1. أنّ كتاب (من لا يحضره الفقيه) ليس كتاباً روائياً محضاً، ولا يمكن محاكمته كسائر الكُتب الحديثيّة الأخرى، بل هو كتابٌ فتوائيٌّ يعبّر عن فقه الشيخ الصدوق.
2. إنّ هذا الكتاب يمثّل آراء الشيخ ومبانيه العلميّة، ولذلك قام بالبيان والتفسير والتطبيق خلال ذكر الأخبار لإبراز أفكاره وفقاً لما يعتقد أنّه حُجّة بينه وبين الله كما ذكر في مقدمة كتابه.
3. لهذا الكتاب جنبة عمليّة استدعت إدراج الزيادات الإيضاحيّة في بعض الروايات، تطبيقاً لما ثبت من الحجج والأدلّة عند الشيخ الصدوق (رحمه الله)، حيثُ إنّ الكتاب يمثّل ما يعتقد أنه حجّة وبرهان.
4. إنّ مسألة الزيادات الإيضاحيّة مأخوذة بعين الاعتبار عند الفقهاء عند التعامل مع كتاب (من لا يحضره الفقيه) لمعالجة كلّ موردٍ بحسبه، وليست اكتشافاً خطيراً من قِبل المشككين في التراث الشيعيّ الذي يعلوهُ نورُ آل مُحمَّدٍ (عليهم السلام)، وهذه المشكلة مع الالتفات إليها لم تصرِف الفقهاء عن الاعتداد بروايات الشيخ الصدوق في هذا الكتاب وغيره.
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ ولا فَسَادًا والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

______________
(1) الكافي، ج6، ص181، رقم الحديث 5040، كتاب الصلاة، باب السجود والتسبيح والدعاء فيه في الفرائض..، ح17.
(2) تهذيب الأحكام، ج2، ص118، رقم الحديث 416.
(3) من لا يحضره الفقيه، ج1، ص329، رقم الحديث 967، باب [47]: سجدة الشكر والقول فيها، ح1.
(4) مصباح المتهجد، ص238-239.
(5) الكافي، ج7، ص635-636، رقم الحديث 6634، كتاب الصيام، باب الدعاء في العشر الأواخر..، ح4.
(6) الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يُعمل مرة في السنة، ج1، ص191.
(7) بحار الأنوار، ج22، ص128.
(8) في هذا المورد، راجعنا نسخة خطيّة لـ«مقباس المصابيح» محفوظةٌ في مركز إحياء التراث الإسلامي في قم المقدسة، رقمها (3447)، وقع الفراغ من نسخها في العاشر من ربيع الأول سنة (1110) هجريّة - أي قبل وفاة المصنّف -، عدد أوراقها (230) ورقة، عدد الأسطر (13) سطراً، مقاسها (18.5×12)، وهي نسخةٌ جيّدةٌ كُتبت بإتقانٍ، وعليها علامات التصحيح. وكذا في بعض النسخ الأخرى.
(9) روضة المتقين، ج7، ص147.
(10) مفتاح الكرامة، ج14، ص268-269.
(11) المكاسب، ج1، ص287.
(12) منتقى الأصول (تقرير السيد عبد الصاحب الحكيم)، ج5، ص384.