الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

بسم الله الرحمن الرحيم
كربلاء كما هي (٣): جذور الجنبة الغيبية في قراءة واقعة كربلاء

قال ميثاق العسر في ملفّه (كربلاء بنظرة لا مذهبيّة، ص12) بعد أن سرد جملة من الأسئلة التي تتعلّق بنهضة سيّد الشهداء (عليه السلام) وطبيعة الاستفادة منها ما نصّه: (اعتقد أنّنا بحاجة ماسّة إلى التجرّد عن عواطفنا ومذهبيّتنا المفرطة لإعادة قراءة حركة الحسين بن علي ومعرفة فلسفتها بعيداً عن المسحة الغيبية المفرطة التي مُسحت بها منذ القرن السابع الهجريّ وحتى اليوم؛ ومن غير ذلك سيستمر المعمل العاشوريّ المتداول في انتاج طقوس وممارسات يومية وسنوية نُسلّي بها عواطفنا ومشاعرنا ونملأ بها جيبونا [ظ جيوبنا] لا عقولنا، ومفتاح حلّ جميع هذه الأمور هو خلع النظارة المذهبية وإعادة قراءة مفردة علم الإمام وموضعتها في مكانها القرآني والنبويّ السليم بلا إفراط أو تفريط)، انتهى.

إنّنا إذا أردنا نقد أيّ قراءةٍ لواقعة كربلاء لا بُدّ لنا من التنقيب عن جذورها ومستنداتها التي بُنيت عليها، وإلّا فلن نتمكّن من إنتاج تحليلٍ سليمٍ ونقدٍ علميٍّ متينٍ بشأنها، وحيثُ إنّ ما يكتبُه العسر لم يخرج عن نطاق الفتوى والادّعاءات الجوفاء التي تكشف عن قصورٍ في التتبع وعجزٍ عن التحليل والاستنتاج فضلاً عن ضعفه في تقديم المعطيات أمام القرّاء بكل وضوحٍ وشفافيّةٍ ادّعى أن واقعة كربلاء قد أُلصقت بها مسحة غيبيّة مُنذ القرن السابع الهجريّ من دون دليلٍ يُذكَر. وانطلاقاً من هنا نسعى في هذه المقالة إلى بيان مستندات هذه القراءة بالنحو الكافي الذي يسمح به المجالُ أمامنا، ونقول: إذا أُطلقت المسحة الغيبية على قراءة واقعة كربلاء فيُحتمل منها إرادة أمرين اثنين أو أوّلهما بالخصوص:
الأمر الأوّل: يتعلّق بطبيعة حركة سيّد الشهداء (عليه السلام) وأنّه عالِمٌ بمقتله في كربلاء، وإذا ثبت ذلك فسوف يكون خروج سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه مقروءاً بنحوٍ مُغايرٍ عمّا لو كان خروجه كخروج غيره من ناحيةٍ عمليّةٍ.
الأمر الثاني: يتعلّق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة وعظمتها.
وسوف نتكلم في الأمر الأوّل لأهميّته وكونه هو المقصود جدّاً عند جملة من المشكِّكين، أما الأمرُ الثاني فسوف نحيلُ إلى بعض الدراسات والتحقيقات المهمّة بشأنه.

[1] جذور القراءة الغيبيّة لحركة سيّد الشهداء (عليه السلام)

إنّ نسبة ورود الجانب الغيبيّ إلى قراءة واقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ لا تخلو من جهلٍ بواقع تلك القراءة؛ فإنّ مستنداتها بارزةٌ منذ قرونِ المتقدّمين، ولم يكن الأمرُ محصوراً بالسيّد ابن طاوس أو غيره ممن كتبَ في هذا الموضوع خلال القرن السابع الهجريّ، ولبيان أبعاد هذه المسألة سوف نشير إلى جانبيْنِ أساسيّين:
الجانب الأوّل: وجود مستنداتٍ علميّة معرفيّة تُدعّم القراءة الغيبيّة خلال قرون المتقدّمين.
الجانب الثاني: إبراز العامل الكميّ والكيفيّ الذي تميّزت به هذه المستندات.

أمّا بالنسبة للجانب الأوّل: فإنّ روايات الإخبار بمقتل سيّد الشهداء (عليه السلام) في كربلاء قد رُويت في المصادر الإمامية والزيديّة والسنيّة، نذكر جملةً منها:
1. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه (ت:368هـ) بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الخزاز، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الملك بن أعين، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في بيتِ أمّ سلمة وعنده جبرئيل عليه السلام فدخل عليه الحسينُ عليه السلام، فقال له جبرئيل: إنّ أمّتكَ تقتل ابنَك هذا، ألا أريك من تربة الأرض التي يُقتل فيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نعم. فأهوى جبرئيل عليه السلام بيده وقبض قبضةً منها فأراها النبيّ صلى الله عليه وآله)، انظر: كامل الزيارات، ص137، رقم الحديث 144، الباب 17، ح4.
2. مصدر إماميّ: ما رواه ابن قولويه بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله تعالى، قال: حدثني سعدُ بن عبد الله بن أبي خلف، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إنّ جبرئيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وآله والحسينُ عليه السلام يلعب بين يديه، فأخبره أنّ أمته ستقتله. قال: فجزع رسول الله صلى الله عليه وآله..إلخ)، انظر: كامل الزيارات، ص135، رقم الحديث141، الباب17، ح1.
3. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله (ت:499هـ) بإسناده عن أم سلمة (رضي الله عنها)، قال: (أخبرنا محمد بن محمود بن قحطبة بن بندار المقري بقراءتي عليه في جامع الكوفة، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي حكمة الثيملي التمار المعروف بابن أبي قراب، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن صالح بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء، قال: أخبرنا سعيد بن سلمة وهو ابن أبي الحسام، قال: حدثني جد موسى بن جبير، عن عبد الله بن سعيد، عن عبيد الله، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: بينما حسين عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البيت وقد خرجت لأقضي حاجة ثم دخلت البيت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ حسيناً فأضجعه على بطنه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه من الدمع، فقلت: يا رسول الله، ما بكاؤك؟ قال: " رحمة هذا المسكين، أخبرني جبريل عليه السلام أنه سيقتل بكربلاء، قال: دون العراق، وهذه تربتها قد أتاني بها جبريل عليه السلام)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص219، رقم الحديث 800.
4. مصدر زيديّ: ما رواه المرشد بالله بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأرجي بقراءتي عليه في باب الأزج ببغداد، قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن إبراهيم بن سنبك البجلي، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن الأشناني، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن زكريا المروروذي، قال: حدثنا موسى بن إبراهيم المروزي الأعور، قال: حدثني موسى بن جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقتل ابني الحسين بظهر الكوفة، الويل لقاتله وخاذله وتارك نصرته»)، انظر: الأمالي الخميسيّة، ج1، ص240، رقم الحديث 839.
5. مصدر سنيّ: روى الحافظُ ابن طهمان (ت:168هـ) في كتابه (المشيخة): (عن عبّاد بن إسحاق، عن هاشم بن هاشم، عن عبد الله بن وهب، عن أم سلمة، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فقال: «لا يدخل عليَّ أَحد»، فسمعت صوتاً فدخلت، فإذا عنده حسين بن علي وإذا هو حزين -أو قالت: يبكي- فقلت: ما لك تبكي يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل أن أمتي تقتل هذا بعدي فقلت: ومن يقتله؟ فتناول مدرة، فقال: أهل هذه المدرة تقتله).
قال المحقق الدكتور محمد طاهر مالك: (إسناده حسن، رجاله ثقات، وهاشم بن هاشم هو ابن عتبة الزهري المدني ثقة من رجال الكتب الستة، وعبد الله  بن وهب هو ابن زمعة بن الأسود الكندي، والحديثُ صحيح لشواهده وطرقه الكثيرة)، انظر: مشيخة ابن طهمان، ص55، رقم الحديث3.
ونقلها عنهُ الحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام، ج2، ص365)، وعلّق عليها المحقق شعيب الأرناؤوط في هامشها بقوله: (إسناده حسن، من أجل عبد الله بن وهب بن زمعة فإنَّه صدوق حسن الحديث).
6. مصدر سنيّ: روى ابنُ سعدٍ (ت:230هـ) في طبقاته بإسنادٍ حسنٍ: (وأخبرنا عليُّ بن محمّد، عن حمّاد بن سلمة، عن أبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، قالت: كان جبريل عند رسول الله والحسين معي فبكى فتركته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته فبكى فأرسلته. فقال له جبريل: أتحبه؟ قال: نعم. فقال: أما إنَّ أمتك ستقتله).
قال المحقق محمد بن صامل السّلمي: (إسناده حسن)، انظر: الطبقات الكبرى – الطبقة الخامسة من الصحابة، ج١، ص٤٢٨، رقم الحديث ٤١٦.
وكلّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ جزماً، وقد ذكرنا في مدوّنة (وثائق عن حقيقة الوهابيّة) سلسلةً من الروايات التي رواها علماء أهل السنة، وانتخبنا منها مقداراً يسيراً أقرَّ علماؤهم ومحققوهم بصحّته واعتباره، وهذه جملة روابط السلسلة:

ومن الجدير بالإشارة إليه كتابُ (مقتل الإمام الحسين، رواية عن جدِّه) للشيخ قيس العطار، وهو دراسةٌ جامعةٌ لأحاديث الإخبار بشهادة الحسين (صلوات الله عليه) على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) من طرق أهل السنة، فليُراجع فإنّه وافٍ بإطلاع القارئ على كثيرٍ من الطرق؛ فإنّ المقال لا يتّسع لإيراد المطوّلات التي تبيّنُ سعة الرواية وكثرة طرقها المؤديّة إلى الاطمئنان بصدورها.
لتحميل كتاب الشيخ العطّار: اضغط هنا - اضغط هنا.
هذا كلّه فضلاً عمّا رواه الشيعة من طرقهم كالصفّار في (بصائر الدرجات)، والكلينيّ في (الكافي)، وعلي بن بابويه في (الإمامة والتبصرة)، وابن قولويه في (كامل الزيارات)، والنعمانيّ في (الغيبة)، والصدوق في بعض كتبه الحديثيّة، والخزاز القميّ في (الكفاية)، والمفيد في (الإرشاد)، والطوسي في (الأمالي) و(الغيبة)، وكلُّ هؤلاء قبل القرن السابع الهجريّ كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة للجانب الثاني: فإنّ قيمة هذه الأحاديث تتّحدد من خلال بيان العامل الكميّ والعامل الكيفيّ، أما الأوّل فمن الواضح أنّ هذه الأحاديث كثيرةٌ طرقها، متوافرة أسانيدها، وهذا ما يُضعّف احتمال الكذب – لا سيّما إذا لاحظنا العامل الكيفيّ أيضاً-، كما أنها منقولة عن كتبٍ معتبرةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، وإنّ الاستطراد في تتبعها عند الفرق الإسلاميّة خبراً خبراً يستدعي مئات الصفحات، وما ذكرناه هو غيضٌ من فيض.
وأمّا العامل الكيفيّ فيتلخَّص في أنّ هذه الأحاديث لها مزيّة عظيمة وهي أنّها وردت من طرق مذاهب مختلفة (الإماميّة، الزيديّة، أهل السنة)، وقد أقرّوا بصحتها وقبلوها، يُضاف إلى هذا عدم وجود غرضٍ مذهبيّ لأهل السنّة والزيديّة في اختلاق مثل هذه الأخبار، فإنهم لا تعلّق لهم بإسباغ صفاتٍ غيبيّة على أهل البيت (عليهم السلام) ومسيرتهم، وهذا الأمرُ ليس من ملامح هذين المذهبين، وهذا بمجموعه يُضعّف احتمال الكذب فيها، وقد أشار السيّد الصدر (رحمه الله) إلى قيمة هذه النقطة عند حديثه حول العوامل الموضوعية التي ترتبط بالشهادات وتؤثّر في إفادة التواتر لليقين، قال (رحمه الله): (تباين الشهود في أوضاعهم الحياتية والثقافية والاجتماعية: فإنَّه كلَّما كانوا متباينين فيها أكثر كان حصول التواتر أسرع؛ لأنَّ ذلك يؤدّي إلى أن يكون احتمال وجود غرض ذاتي مشترك للكذب أبعد وأضعف. وقد أدرك القدماء هذا الشرط أيضاً بفطرتهم فاشترط بعضُهم أن يكون الشهود من بلدان عديدة أو من ملل وأديان مختلفة ونحو ذلك، وجوهر النكتة ما أشرنا من أنَّ هذا يكون مؤثراً على حساب الاحتمالات وسرعتها نفياً أو إثباتاً)، انظر: بحوث في علم الأصول، ج4، ص333.
وبملاحظة كثرة طرق الرواية، وتعدد رواتها من مذاهب مختلفة، يضعف احتمال الكذب، ولا سيّما إذا انضمّ لذلك ورودها عبر جملةٍ من الأسانيد المسلسلة بالثقات الأجلّاء، فتأمّل.

[2] دلائل الأحداث الغيبية الإعجازيّة الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه).

وأمّا بالنسبة للأمر الثاني الذي يتعلق بالأحداث الواقعة بعد مقتله (صلوات الله عليه) من كرامات غيبيّة تُشير إلى هول الفاجعة، فنُحيل في المقام إلى دراستين تناولتا جملةً من الروايات الواردة في كتبٍ سُنيّةٍ متقدّمةٍ قبل القرن السابع الهجريّ، ويردُ في حقّها ما ذكرناه من العامل الكميّ والعامل الكيفيّ باعتبار ورودها من طرق مذهب آخر لا تعلّق به بالإمامة ومسيرها وإسباغ صبغة غيبيّة عليه.
1. كتاب "غضب الله تعالى لمقتل الحسين (عليه السلام) بالأسانيد الجياد"، للشيخ باسم الحليّ، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.
2. بحث موجز بعنوان "رسالة في حال السماء بعد مقتل الحسين (عليه السلام) من طرق أهل السنة للأخ الباحث ناصر الحُسين، للتحميل: اضغط هنا - اضغط هنا.

ويتلخّص مما تقدّم: أنّ جذور القراءة الغيبيّة لواقعة كربلاء ترجعُ إلى القرون الأولى ولم تبرز في القرن السابع الهجريّ، وتمتازُ هذه الجذور والمستندات بكثرة الطرق عند المذاهب الإسلاميّة، واعتبارها واعتمادها عند علماء كلّ مذهب، وهذا ما يعزّزُ العامل الكميّ والكيفيّ في مقام الاطمئنان بصدور هذه الروايات، وبذلك يتبيّن أنّ دعوى إلصاق مسحة غيبيّة بواقعة كربلاء في القرن السابع الهجريّ تفتقرُ إلى الدليل، فضلاً عن شهادة البراهين الأخرى ببطلانها، وهذا دالٌّ على عبثيّة أصحاب تلك الدعاوى وعدم جدّيتهم في طرح البراهين أمام القُرّاء والاكتفاء بالادّعاء والخطابيّات الإنشائيّة.