الخميس، 28 فبراير 2019

ميثاق العسر واعتبار بعض أسانيد حديث «إن الله يغضب لغضب فاطمة» - الحلقة الأولى


بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق العسر واعتبار بعض أسانيد حديث «إن الله يغضب لغضب فاطمة»

بقلم الشيخ: إبراهيم جواد.

لقد أفرطَ ميثاق العسر في التقلّب والتلوّن والازدواجيّة وتوظيف الأدوات العلمية لخداع الجماهير، وأنا أشفقُ على بعضهم ممن يميل مع ريحه إذا أرادها أن تهبّ شرقاً أو غرباً، فتقلّبات العسر لا ميثاق لها، كما أنها لا نهاية لها، وهي تتغير بحسب توظيفه للعلم في إدارة بوصلته لمغازلة الجهة الفلانية أو غيرها، ولا نريدُ الخوضَ في هذا الأمر كثيراً، فسوف نتعرّضُ له لاحقاً، أما ما يخص موضوعنا فسوف نذكرُ ما يلي، ثم نُتبعه بجميع الوثائق المصوَّرة إن شاء الله تعالى.

كتب ميثاق العسر بتاريخ (8/5/2015) على صفحته الشخصيّة في موقع فيسبوك ما نصّه: (أشفق كثيراً على بعض أساتذتي وأشعر بالخيبة وفقدان الأمل حينما أراهم يهرفون بما لا يعرفون؛ إذ إنهم - وحسب معرفتي بهم - يحتاجون إلى من يقف إلى جنبهم على مدى (24) ساعة لإرشادهم وتوجيههم وتذكيرهم بكلامهم ولوازمه، وإن ما ذكرتموه هنا يتنافى مع ما ذكرتموه هناك..إلخ).

إذن؛ هو ينعى على أستاذه كثرة التقلُّبِ والقفز بين الأقوال على نحو التناقض بينها، ويبدو أنّ التلميذَ النَّجيبَ - بحكم المجاورة - قد أصيبَ بنفس علّة الأستاذ، فهو لا زال يتقلّب بين الآراء، وذلك لكثرة توظيفها بحسب متطلّبات كل مرحلة، وفي هذه الأوقات نجدهُ يخدعُ متابعيه ويزعمُ أمامهم عدم صحّة الأسانيد الثلاثة التي يروي بها الصدوق حديثَ «إنَّ الله يغضبُ لغضب فاطمة..»، فقال في منشورٍ له بتاريخ (16/2/2019) وهو [الحلقة السابعة] بحسب ترتيبه: (وفي ضوء ما مرّ يتبيّن وجه الإشكال في الصّيغة الّتي أوردها المرحوم الصّدوق للحديث مدّعياً روايتها بأسانيد ثلاثة عن الرّضا "ع" في كتابه الّذي أهداه للوزير الصّاحب بن عبّاد عيون أخبار الرّضا "ع"؛ فمضافاً إلى سقوط جميع هذه الأسناد عن الاعتبار للجهالة والإهمال وإنّ محاولة تصحيحها بمجموعها كلام مذهبيّ لا قيمة له عند المحقّقين، فإنّ الصّيغة تتحدّث عن ربط غضب ورضا الله بغضب ورضا فاطمة..إلخ).
فهل هذا صحيح حقاً؟ وهل يقول المحققون إن تصحيح هذه الأسانيد لا قيمة له؟ وماذا لو أراد ميثاق العسر أن يحتجّ بمثل هذه الأسانيد؟!

فلنرجع بعجلة الزمن إلى الوراء، ولننظر إلى ما كتبه المحقق الفيسبوكيِّ العظيم ميثاق العسر في منشور له بتاريخ (19/3/2017) بعنوان: (هكذا كانت فاطمة)، قال: (روى الصدوق في عيونه بأسانيده الثلاثة وفيها المُعتبر عندهم عن عليّ بن الحسين السجاد "ع" عن أسماء بنت عميس إنها حدّثته: كنت عند فاطمة جدتك "ع" إذ دخل عليها رسول الله "ص" وفي عنقها قلادة من ذهب كان قد اشتراها لها علي بن أبي طالب "ع" من فيءٍ [وهو المال الذي أخذه المسلمون من الكفار بلا قتال!] فقال لها "ص": يا فاطمة «لا يقول الناس إنّ فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبةً فأعتقتها [لوجه الله تعالى]». [عيون أخبار الرضا، ج2، ص44-45].
أبارك لكم ولادة بضعة الرسول فاطمة الزهراء ع، وأسأله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بحلمها وحكمتها والعاملين بسيرتها الصحيحة وتعاليم أبيها، إنه ولي حميد)، انتهى نصّ كلامه.
والمراد بالأسانيد الثلاثة: هي أسانيد روى بها الصدوق عدداً من الروايات، وهذه الروايات موجودة في الجزء الثاني من (عيون أخبار الرضا)، وتبدأ من صفحة (48) وتنتهي في صفحة (110) أي من الحديث رقم [359] إلى الحديث رقم [545].
والحديث الذي اعترف العسر أنّ بعض أسانيده معتبرة عند الشيعة الإمامية رقمه (516)، وحديث النبي (صلى الله عليه وآله) «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة..» مرويّ برقم (361) ورقم (531).. فكل ما تقدّم مرويّ بالأسانيد الثلاثة، إلا أنّ هذه الأسانيد لها حكمٌ يتغيّر من فترةٍ لأخرى بحسب متطلبات كل مرحلة، والله من وراء القصد كما هو واضح :)

والظّاهرُ هنا: أنّ التلميذَ كأستاذه، بحاجةٍ إلى من يذكّره بأنّ ما قاله هنا يتنافى مع ما قاله هناك، وهذه هي السياسة البازاريّة التي تمحّضت في قانون العبثيّة وخديعة عامة الناس عبر التلبّس بلباس البحث العلميّ والنزاهة، وتوظيف العلم في تحقيق مآرب كل مرحلة!

إذن؛ حينما أراد توظيفَ هذا الحديث لغايةٍ ما كانت أسانيد الصدوق الثلاثة فيها ما هو معتبرٌ عند الشيعة الإماميّة، وحينما أراد الطعن في حديث «إن الله يغضب لغضب فاطمة» أصبح تصحيح هذه الأسانيد كلاماً مذهبياً لا قيمة له عند المحققين! ومن هم هؤلاء المحققون بربّك؟ لعلك تخالُ نفسك منهم؟ وأين كان المحققون عندما رأيت تلك الأسانيد الثلاثة فيها المعتبر عندهم؟! إنّه لمن المهزلة والخيبة أن يعبث بعلم الحديث والرجال متقلّب يتلوّن بحسب متطلبات كل مرحلة... ولعلّ في هذا الحالِ درساً لكل من يقرأ ويتابع، أن لا يُصغي لكل من نسخَ ولصق أحاديث الرواة وتكلّم في صحة الأسانيد وضعفها، فهناك من يحقّق خدمةً للعلم، وهناك من يوظّف هذه الأدوات لأداء متطلبات كل مرحلةٍ، وربما لو فُعِّل سهم المؤلفة قلوبهم وعُمل به ربما سيعيد «صاحبُنا» النظرَ في تضعيف الأسانيد الثلاثة، من يعلم؟ لكل مرحلةٍ تصحيحاتها وتضعيفاتها، وإلى الله عاقبة الأمور.

ويليقُ بالمقام أن نذكر ما قاله العسر في (الخطبة البازاريّة) حيث قال:
(إنّ أخطر مرحلة يمر بها الإنسان تكمن في توظيف أدوات البازار والسوق في التعاطي مع المفردات الدينية؛ فيصبح المقياس الذي تقاس به قيمة (المفردة الدينية) هو مقدار الربح (الدنيويّ) الذي توفره والخسارة التي تسببها؛ وبذلك يُصار إلى تحليل كثير من الأمور المحرمة، وتحريم كثير من الأمور المحللة؛ وسبب ذلك عائدٌ إلى نظام السوق والبازار؛ والذي يتأثّر بطبيعته بنظام العرض والطلب...إلخ).


يُتبع.. بمزيدٍ من صنوف التناقضات والأكاذيب، وإليك الآن توثيق المطالب.

ملاحظة: يرجى الضغط على الصور لتظهر أكثر وضوحاً.

أولاً: كلامه عن تقلّبات أستاذه وأنّه بحاجة لمن يذكّره بكلامه ولوازمه.

ثانياً: تضعيف ميثاق العسر للأسانيد الثلاثة.

ثالثاً: اعترافه بأنّ الأسانيد الثلاثة بعضها معتبرٌ عند علماء الإمامية.

وعبر صفحته في تويتر:

رابعاً: الأسانيد الثلاثة في (عيون أخبار الرضا - الجزء الثاني)
خامساً: الخطبة البازاريّة العميقة.


الأربعاء، 27 فبراير 2019

ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة السادسة

بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة السادسة

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

(المحور الثاني): الطرق الأخرى للحديث.

لقد تضمّن كلام المستشكل ثلاث شبهات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام):
١. عدم إمكان الاحتجاج به على أهل السنة إن رفضنا تطبيقه في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام).
٢. الملازمة الموضوعية بين قبول الحديث من طريق المسور وبين قبول تطبيقها؛ لاقتران الحديث بالتطبيق في جميع طرقه.
٣. عدم ثبوت صدور هذا الحديث من النبي (صلى الله عليه وآله).
وقد تقدّم الجواب عن الأمرين الأولين في المحور الأول، والذي يهمنا فعلاً إثبات صدور الحديث ـ وبالتالي إمكان الاستدلال به في المسائل الاعتقادية ـ .
والمنهج الذي نسير عليه هو تتبع أسانيد الحديث واعتبار كلّ سند منها قرينة تصلح للانضمام إلى القرائن والأسانيد الأخرى لتكوّن الوثوق بصدوره وفق منطق حساب الاحتمالات، وعليه فلا يهمنا كثيراً إثبات الصحة السندية بعد أن كان ما نبتغيه أقوى من الناحية الاحتمالية من مجرد ثبوت الحديث بسند واحد صحيح.

[الطريق الأول]: رواية الحسين بن زيد عن عمر بن علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي (عليهم السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة: «إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» [الآحاد والمثاني: ج٥ ص٣٦٣، المستدرك على الصحيحين: ج٣ ص١٥٣، الأمالي للصدوق: ص٤٦٧].

ولا نطيل الكلام بالتعرّض لما أورده المستشكل بشأن سند الحديث لأنّا لا نريد الاحتجاج به على أهل السنة إذ يكفينا حديث المسور الصحيح عندهم في الاحتجاج، كما لا نريد الاستدلال به منفرداً لضعف سنده عندنا، وإنّما ننظر إليه كقرينة من القرائن التي تعين على إثبات صدور الحديث. وقد ذكر المستشكل إشكالاً على الاعتماد على هذا الحديث هو أقرب بالطرفة و"النكتة" منه إلى الإشكال العلمي الذي يستحق أن يُنظر فيه، لكن لا بأس بالتعرّض له لتوضيح ما بلغه المستشكل من المغالطة والتهافت في كلامه [لاحظ الصورة المرفقة].

أولاً: إن مجرد اشتراك حديثين في راوٍ من رواة سلسلة السند لا يشكل قرينة على اتحاد الواقعتين المرويتين، وهذا من الأمور الواضحة.

ثانياً: حينما نسأل المستشكل ما هو رأيك برواية المسور التي تربط هذا الحديث بقضية خطبة الزهراء (عليها السلام) يجيب بما نصّه: (والظاهر وهذا احتمال سنفحص جدوائيّته المعرفيّة لاحقاً: إنّ الهدف من رواية هذه الرّواية في صحاح أهل السنّة هو الحطّ من مقام عليّ "ع")، ويقول أيضاً: (نحن نرفض صدور هذا الحديث من النبي "ص".. لأسباب رجالية).
وحينما نسأله بعد ذلك من هو المتهم عندك في وضع هذا الحديث؟ يجيب بأنّه يرفض الرواية من منطلقات رجالية تتعلّق بالمسور بن مخرمة.
فإذا كان المستشكل يرفض الحديث لوجود المسور بن مخرمة فيه فكيف يجعل هذه الحادثة المرفوضة عنده مفسرة لسياق هذا الحديث؟ وكيف يقول أنّا نحتمل أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يتحدّث عن نفس الواقعة التي رواها المسور مع أنّ المفروض أنّ المسور لم يروِ واقعة حقيقية؟
وبعبارة أوضح: إنّ المستشكل لا يرضى حديث المسور ويستظهر أنّه مجعول للحطّ من مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم يقول إنّ رواية أمير المؤمنين عن النبي (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» لو صحّت فهي تحكي عن نفس الواقعة التي رواها المسور والتي هي مجعولة للحط من مقامه هو!

ثالثاً: من أين علم المستشكل أن الإمام السجاد (عليه السلام) قد روى الصيغة المشهورة للحديث التي تتضمّن إغاظة علي (عليه السلام) للزهراء (عليها السلام) مع أنّه لم ينقل ذلك عنه أحد إلا الزهري راوي البلاط الأموي؟ فهل المستشكل ـ الذي يرفض عشرات الروايات التي لا تناسب ذوقه ـ يقبل رواية واحدة ينفرد بنقلها الزهري؟



ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الخامسة


بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الخامسة

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

قال المستشكل ـ معلّقاً على اعتماد الشيعة على ما دلّ على ملازمة غضب الزهراء (عليها السلام) لغضب النبي (صلى الله عليه وآله) ـ : (إنّ سبب صدور هذا الحديث من النّبي "ص" كما هو صريح الكتب السُنّيّة والشّيعيّة هو إغضاب وإغاظة عليّ "ع" زوجته فاطمة "ع" بسبب خطبته بنت أبي جهل... هذا هو السّياق المرويّ في كتب السُنّة والشّيعة(١) لولادة هذا الحديث؛ فإذا كنت تنكر مثل هذه الحادثة فما معنى تمسّكك بهذا الحديث؟! وإذا كنت تؤمن بهذه الحادثة فلماذا لا تطبّقها على عليّ "ع" وهو سبب نزولها؟!). وكرّر ذلك في مواضع كثيرة [لاحظ الصورة المرفقة مثلاً].

وقد اتضحّ تفصيل الجواب عن هذه الشبهة ممّا تقدّم، وملخّصه:
إنّ رواية المسور بن مخرمة قد وردت في كتب أهل السنة بأربع طرق وصياغات، فينبغي ملاحظة كلّ واحد منها لنرى هل أنّها تشتمل على حديث (من أغضبها فقد أغضبني) أو ما يرادفه [سنطلق على ذلك اسم "الحديث" اختصاراً]؟ وهل تشتمل على تطبيقه في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما زعم المستشكل [سنطلق على ذلك اسم "التطبيق" اختصاراً]؟
[الطريق الأول]: لم يشتمل على الحديث، واشتمل على التطبيق فقط.
[الطريق الثاني]: اشتمل على الحديث دون التطبيق.
[الطريق الثالث]: اشتمل على الحديث دون التطبيق.
[الطريق الرابع]: اشتمل على الحديث دون التطبيق.
فيتبيّن أنّ ما اشتمل على الحديث من هذه الطرق لم يذكر فيها أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أغضب الزهراء (عليها السلام) وأغاظها، وما اشتمل على أنّه قد أغضبها وأغاظها [وهو الطريق الأول فقط] لم يشتمل على الحديث.. فكيف يقال بعد ذلك: (إن كنت تنكر الحادثة فما معنى التمسّك بهذا الحديث؟)، فالذي ننكره هو الطريق الأول والذي ليس فيه الحديث لكي نتمسّك به أصلاً، والذي نقبله هو ما اتفقت عليه الطرق الثلاثة الأخرى التي تضمّنت الحديث ولم تتضمّن الحادثة والتطبيق. فالمستشكل خلط على متابعيه ـ بقصد أو من دون قصد! ـ الطرق والروايات بغثّها وسمينها واعتبرها حديثاً واحداً ثمّ ألزم الآخرين بقبول هذا الحديث الملفّق كاملاً أو رفضه كاملاً، وهذا بعيد بمراتب عن المنهج العلمي في التعامّل مع المرويات.

وبهذا نتمّ الكلام عمّا أردنا ذكره فيما يرتبط بحديث المسوّر بن مخرمة، وقد تبيّن أن مقتضى المنهج العلمي هو ثبوت روايته لهذا الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع عدم اشتمال حديثه على تطبيق ذلك في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام). وسننتقل إن شاء الله تعالى إلى الطرق والأسانيد الأخرى للحديث.

(١) نسبة ذلك إلى كتب الشيعة تدليس محض.



ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم 
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الرابعة

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

(الطريق الرابع):
ما رواه أم بكر بنت المسور وجعفر عن عبيد الله بن أبي رافع عن المسور: (بعث حسن بن حسن [بن علي بن أبي طالب] إلى المسور يخطب بنتاً له، قال: توافيني بالعتمة، فلقيه فحمد الله المسور فقال: ما من سبب ولا نسب ولا صهر أحبّ إليّ من نسبكم وصهركم ولكنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «فاطمة شجنة مني، يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها، وإنّه ينقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلا نسبي وسببي»، وتحتك ابنتها [أي إنّك متزوّج من ابنة فاطمة عليها السلام؛ إذ الحسن المثنى كان متزوّجاً من فاطمة بنت الحسين (عليه السلام)] ولو زوّجتك قبضها ذلك، فذهب [الحسن] عاذراً له) [مسند أحمد: ج٤ ص٣٣٢].

وهذا الطريق ـ بخلاف الطرق الثلاثة السابقة ـ لم يُرو في الصحيحين، لكن صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي [المستدرك على الصحيحين: ج٣ ص١٥٥]، والمحقق في [مسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين: ج١٤ ص٣٢١] و[فضائل الصحابة: ج٢ ص٧٦٥]. وأم بكر بنت المسور ليس لها التوثيق عند أهل السنة، لكنّ ذلك لا يضرّ بالسند بعد رواية شخص آخر معها للحديث عن عبيد الله، وهو جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

وقد يعترض على صحّة السند بأنّ جعفر بن محمد (عليه السلام) لا يروي عن عبيد الله بن أبي رافع مباشرة كما هو واضح لدى ملاحظة طبقات الرواة، وعلى ذلك فهناك واسطة ساقطة بين الرجلين ولا نحرز كونها ثقة فيصبح الحديث مرسلاً لا يمكن الحكم بصحّته.
والجواب عن ذلك: إنّ الواسطة الساقطة في هذا الحديث هو الإمام الباقر (عليه السلام) كما يُعرف ذلك من مراجعة الحديث في [ تاريخ مدينة دمشق: ج٧٠ ص٢١]، وكما تساعد عليه ملاحظة الأسانيد الأخرى؛ فإنّ جعفر بن محمد (عليه السلام) روى عن عبيد الله بن أبي رافع بواسطة أبيه الباقر (عليه السلام) في بعض الموارد [لاحظ مثلاً: مسند أحمد ج٢ ص٤٣٠، المستدرك ج٢ ص٢٣٧، المعجم الكبير ج٨ ص٧٥]. وعليه فلا إشكال في صحّة السند وفق مباني أهل السنة.

وأمّا الدلالة فليس في هذا الحديث ذكر للمناسبة التي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الحديث.. فهل قالها لأنّ علياً (عليه السلام) خطب ابنة أبي جهل [كما مرّ بنا في الطريق الأول] أو قالها لأنّ بني أبي جهل استأذنوه في أن يزوّجوا علياً (عليه السلام) من ابنتهم [كما في الطريق الثاني] أو لسبب آخر؟ ليس في هذا الحديث تفصيل لهذا الموضوع، فلا يمكن إدعاء أنّه مرتبط بهذه القضايا.

بل يمكننا أن نفهم ممّا ورد في هذا الحديث أنّه لم يصدر من النبي (صلى الله عليه وآله) بمناسبة زواج أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنة أبي جهل، والسبب في ذلك أنّا إذا افترضنا أنّ هذا هو السبب في صدور هذا الحديث فسيكون الحديث غير مفهوم وخالياً عن معنى صحيح.. وتوضيح ذلك:
لنفرض أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) صعد المنبر وقال: «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن..»، فإذا سألناه: لماذا لا تأذن يا رسول الله؟ فسيقول لنا ـ بعد أن فرضنا أنّ هذه الصيغة الرابعة مرتبطة بهذه الحادثة ـ : «فاطمة شجنة مني، يبسطني ما بسطها ويقبضني ما قبضها»، فإذا سألنا: وما ربط هذا التعليل بقضية الزواج؟ فالجواب: إنّ ارتباطه واضح فالزواج محرّم على أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنّه سيقبض الزهراء (عليها السلام) ويغضبها وما يقبضها ويغضبها يقبضني ويغضبني، فإذا سألنا: وهل يحرم على المسلمين أيضاً أن يتزوجوا ابنة أبي جهل أو أي امرأة أخرى؟ فالجواب: وما علاقة المسلمين بذلك؟! فالزواج من ابنة أبي جهل محرّم على أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنّه يغضب الزهراء (عليها السلام) وأمّا زواج زيد وعمرو وخالد منها أو من غيرها فلا يغضب الزهراء (عليه السلام) فلا يكون محرماً طبعاً.
ثمّ يكمل النبي (صلى الله عليه وآله) تعليله ـ بحسب الفرض ـ ويقول: «وإنّه ينقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلا نسبي وسببي»، وهنا نسأل من جديد: ما ربط هذا التعليل بقضية زواج أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنة أبي جهل؟ فيفترض أن يكون الجواب: إنّ الزواج من ابنة أبي جهل يحرم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لأنّ سببي ونسبي هو الذي سوف لا ينقطع وأمّا سبب ونسب أبي جهل فينقطع يوم القيامة. وهنا نسأل: إنّ هذا التعليل لا يفرّق بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين غيره ولا بين حياة الزهراء (عليها السلام) وبين موتها، فهل يحرم على المسلمين أن يتزوجوا إلا من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأنّ سببه ونسبه هو الباقي دون غيرهم؟! وهل يحرم على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يتزوّج من غير الزهراء (عليها السلام) بعد وفاتها لهذا السبب؟! ليس لهذا الكلام معنى مفهوم كما هو واضح، إذن هذه الفقرة لا تلتئم بقضية تحريم الزواج على أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولذا لا نجدها موجودة في الروايات التي ربطت حديث إغضاب الزهراء (عليه السلام) بموضوع الزواج المزبور. وهذا يثير فينا بعض الريب اتجاه ربط هذا الحديث مع قضية زواج ابنة أبي جهل ونحتمل أنّ ما روي عن كاتب أمير المؤمنين (عليه السلام) [وهو عبيد الله بن أبي رافع الوارد في سند هذا الطريق] أدقّ وأحرى بالقبول ممّا روي عن راوي بني أمية [الزهري] وقاضي بني الزبير [ابن أبي مليكة]، فليتأمّل.

ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثالثة


بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثالثة

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

(الطريق الثاني):
ما رواه الليث بن سعد، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ـ وهو على المنبر ـ : «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن ابي طالب، فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم؛ فإنّما هي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» [صحيح البخاري: ج٦ ص١٥٨].

وينبغي هنا ملاحظة أمور..

أولاً: إنّ هذه الصيغة تضمّنت استئذان بني هشام بن المغيرة النبي (صلى الله عليه وآله) في أن يزوّجوا أمير المؤمنين (عليه السلام) من ابنة أبي جهل، ولم تتضمّن أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أقدم على الخطبة، بل مضمونها ينسجم مع إقدام بني هشام ابتداءً، ولعلّ ذلك كان منهم طمعاً في اكتساب وجهة اجتماعية في ظلّ الظروف الجديدة حيث انقلب وضعهم الاجتماعي إلى النقيض بعد فتح مكّة، وأصبح حالهم كحال أتباع النظام السابق بعد حلول نظام جديد معارض.
بل يمكن القول: أنّه لو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المقدم على الخطبة فلماذا صبّ النبي (صلى الله عليه وآله) ـ بحسب هذه الرواية ـ غضبه على بني هشام بن المغيرة بدلاً عن صهره (عليه السلام) مع كونه هو المقدم على الخطبة وعلى إغضاب الزهراء (عليه السلام) لا بنو هشام؟! فهذا مؤشر على عدم صدور الخطبة منه (عليه السلام).
ويتضحّ ممّا تقدّم أنّ هذه الصيغة لا تشتمل على تطبيق (يريبني ما رابها ويؤذيني ما يؤذيها) على أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ لأنّها لا تدلّ على صدور الإيذاء والإرابة منه. وعلى ذلك فلا يواجه الاستدلال بهذه الصيغة إشكالية التفكيك داخل الحديث الواحد.

ثانياً: تفترق هذه الصيغة عن الصيغة السابقة التي رواها الزهري في عدة أمور لا بأس بأن نسلط الضوء عليها ليتبيّن للقارئ حجم الوضع في رواية الزهري المتقدمة:
١. ما ذكرتُه أعلاه من عدم تضمّن هذه الرواية لقصة خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنة أبي جهل، وتضمّن رواية الزهري لها.
٢. نسبت رواية الزهري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (فإنّي أخاف أن تفتتن [فاطمة] في دينها)، وهو ما خلت عنه هذه الرواية.
٣. نسبت رواية الزهري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) اقتران ذمّه لأمير المؤمنين (عليه السلام) بمدح صهر له من بني عبد شمس [جد بني أمية] ـ وهو أبو العاص بن الربيع ـ ، وهو ما خلت عنه هذه الرواية.
٤. تضمّنت هذه الرواية قول النبي (صلى الله عليه وآله): «يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها»، وهو ما حذفه الزهري.
وإذا لاحظت هذه الفروقات تجد أنّ جميعها تصبّ في سبيل الانتقاص من آل البيت (عليهم السلام) ومدح خصومهم.
والعجيب أنّ المستشكل الذي يرفض أحياناً عشرات الروايات التي تشتمل على ما لا يوافق هواه قد قبل حديث راوية بني أمية الزهري وصدّقه في حكايته المكذوبة عن الإمام السجاد (عليه السلام) ورتّب على ذلك بعض النتائج ـ التي سنتطرق إليها لاحقاً ـ، وهذا ناتج عمّا نبّهنا عليه مراراً من انعدام المنهج العلمي في التعامل مع الروايات لدى المستشكل.

ثالثاً: هل نستطيع أن نعتمد على الليث بن سعد في هذه الصيغة التي حكاها عن عبد الله بن مليكة أم أنّ بعض الإضافات في هذه الحديث هي من الليث بن سعد ولم ينقلها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور؟
لا نستطيع أن نجزم بأيّ من الأمرين، لكنّا لا نستطيع أن نطمئن بأنّ هذه الصيغة هي التي رواها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور لمجموع أمرين:
١. إنّ رواية عبد الله بن أبي مليكة عن المسور قد نقلها عنه شخص غير الليث بن سعد ـ كما سيأتي في الطريق الثالث ـ ، وحينما نرجع إلى نقل ذلك الشخص لا نجد فيه بعض الإضافات الموجودة في هذا الطريق.
٢. لم يثبت عندنا أنّ الليث بن سعد ممّن يوثق به خصوصاً في أمثال هذه المواضيع، وقد قيل في حقّه: (كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدّثهم بفضائل عثمان فكفّوا عن ذلك) [تاريخ بغداد: ج١٣ ص٨].

رابعاً: لو فرضنا أنّ الليث بن سعد كان صادقاً وأنّ هذه الصيغة هي التي رواها ابن أبي مليكة عن المسور فمع ذلك لا يمكننا الاعتماد على هذه الرواية؛ فإنّه ـ مضافاً إلى اختلاط ابن أبي مليكة مع ابن الزبير وكونه قاضياً ومؤذناً له ـ سيأتيك في الطريق الرابع للحديث ما لا ينسجم مع الإضافات التي في هذه الصيغة ممّا يسلب الوثوق عنها، فترقّب.

(الطريق الثالث):
ما رواه عمرو بن دينار عن عبد الله بن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «فاطمة مني، فمن أغضبها أغضبني» [صحيح البخاري: ج٤ ص٢١٠].

وهذا الطريق يشترك مع الطريق السابق في الراوي الثاني (عبد الله بن أبي مليكة)، لكنه يختلف عنه في الرواي الثالث فهو هنا (عمرو بن دينار) وهناك (الليث بن سعد)، وهذه الصيغة التي يرويها عمرو بن دينار لا تشتمل على الإضافات الموجودة في رواية الليث بن سعد، وهذا الأمر ـ مع ملاحظة عدم وثوقنا بالليث بن سعد كما تقدم ـ يجعلنا نتردد في أنّ الصيغة التي رواها عبد الله بن أبي مليكة عن المسور هل هي مطابقة مع رواية الليث [فيكون عمرو بن دينار قد روى جزءاً من الحديث ولم ينقل الباقي] أم هي مطابقة مع رواية عمرو [فيكون الليث بن سعد قد أضاف على الحديث ما ليس فيه]، وسيظهر لك أثر هذا التردد قريباً إن شاء الله.
وعلى كلا التقديرين فإن رواية عبد الله بن أبي مليكة ـ سواء بنقل الليث أم بنقل عمرو ـ لا تشتمل على تطبيق الفقرة المزبورة على أمير المؤمنين (عليه السلام). ويوجد هناك طريق رابع أخير لهذا الحديث لا بدّ من ملاحظته لننتقل بعد ذلك إلى ذكر النتيجة النهائية إن شاء الله تعالى.

ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الثانية

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

[الملاحظة الثانية]:
ذكر المستشكل أنّ حديث المسور بن مخرمة حديث واحد لراوٍ واحد يتضمّن قصة ورد فيها قول النبي (صلى الله عليه وآله): (من أغضبها فقد أغضبني) وورد فيها تطبيقه في حقّ في أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا بدّ علينا ـ منطقياً ـ إمّا أن نقبل من المسور بن مخرمة نقله فتثبت عندنا هذه الفقرة وتطبيقها [ونلتزم بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد خطب بنت أبي جهل وأغضب الزهراء (عليها السلام)] وإمّا أن لا نقبل منه ذلك فلا تثبت عندنا هذه الفقرة ولا تطبيقها [فلا يصحّ أن نستفيد منها في استدلالاتنا المذهبية]. وشنّع كثيراً على العلماء في تفكيكهم بين الأمرين واعتمادهم على الفقرة دون التطبيق.

والصحيح أنّ قبول هذه الفقرة من رواية المسور لا يلزمه ـ من الناحية العلمية والموضوعية ـ القبول بانطباق ذلك في مورد أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولتوضيح هذا الأمر ينبغي علينا في البداية أن نلاحظ أسانيد هذا الحديث وصيغه المنقولة عن المسوّر في كتب المخالفين ونلاحظ حال كلّ واحد منها. فأقول: قد روى أهل السنة هذا الحديث بطرق وأسانيد متعددة..

(الطريق الأول): ما رواه محمد بن شهاب الزهري: (أنّ علي بن الحسين [السجّاد عليه السلام] حدّثه أنّهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية مقتل الحسين بن علي (رحمة الله عليه) لقية المسور بن مخرمة فقال له:هل لك إليّ من حاجة تأمرني بها؟ فقلت له: لا، فقال: فهل أنت معطٍ سيف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنّي أخاف أن يغلبك القوم عليه، وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليهم أبداً حتى تبلغ نفسي.. إنّ علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة (عليها السلام)، فسمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ـ وأنا يومئذٍ محتلم ـ فقال: «إنّ فاطمة مني وأنا أتخوّف ان تفتتن في دينها»، ثمّ ذكر صهراً له من بنى عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه قال: «حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي، وإنّي لست أحرم حلالاً ولا أحلّ حراماً ولكن ـ والله ـ لا تجتمع بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبنت عدو الله أبداً») [صحيح البخاري: ج٤ ص٤٧].

وهذه الصيغة لا يستدلّ بها الشيعة على شيء ولا يمكنهم أن يحتجّوا بها على أهل السنة؛ وذلك لأنّها خالية عن فقرة (من أغضبها أغضبني) التي يستدلّون بها على مقام الزهراء (عليها السلام) والقدح في خصومها الذين أغضبوها، حيث تمّ استبدالها بفقرة (وأنا أتخوّف أن تفتتن في دينها).
وكيفما كان فهذا الحديث موضوع بلا ريب؛ لجملة من القرائن الداخلية والخارجية التي لسنا في صدد تفصيلها، فإنّ المستشكل اعترف بوضع هذا الحديث فأغنانا عن الخوض في ذلك.
لكنّ السؤال الذي يهمنا فعلاً: من هو الواضع لهذا الحديث؟ وإذا فتشّنا في سند الرواية نجد أنّ من المؤكد أن الوضع لم يحصل مِن مَن هم قبل محمد بن شهاب الزهري في السند؛ وذلك لأنّ هذا الحديث نقله عن الزهري جمع منهم: ابن حلحلة وشعيب والنعمان ومعمر وعبيد الله بن أبي زياد وغيرهم، فلا يحتمل أنّه لم يصدر عن الزهري وأنّ هؤلاء جميعاً كذبوا عليه، وعلى ذلك فيدور الأمر في وضع الحديث بين رجلين هما: (محمد بن شهاب الزهري) و(المسور بن مخرمة)، والذي نراه أنّ هناك مجموعة من المبررات تدفعنا إلى الاعتقاد بدخالة الزهري في وضع هذا الحديث.

١. إنّا إذا عدنا إلى الحديث وتأمّلنا في متنه سنستكشف مبررات وضعه والاتجاه الذي ينتمي إليه الواضع، فالحديث يقول لنا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) حينما صعد المنبر وذمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ضمّن كلامه ـ ويا للصدفة ـ مدح صهر له من بني عبد شمس [جد بني أمية] وقال أنّه حدّثه فصدق ووعده فوفى!. وهذه المقابلة التي جمعها لنا الواضع تشير إلى أنّه وضع الحديث لصالح بني أمية.
وإذا رجعنا إلى الرجلين اللذيّن احتملنا وضع الحديث من قبل أحدهما وجدنا أنّ المسور بن مخرمة وإن روي عنه تبجيلٌ لمعاوية لكنّه كان على عداء مع يزيد وشهد عليه أنّه يشرب الخمر فأمر يزيد بضربه الحدّ، والتحق بعبد الله بن الزبير وقاتل معه جيش يزيد حتى قُتل، وإذا لاحظنا الحديث وجدناه منقولاً عن المسور بعد عودة الإمام السجاد (عليه السلام) من السبي أي في زمن يزيد بن معاوية، ومن المستبعد أن يضع المسور حديثاً لصالح بني أمية ويخبر به في زمن عدائه لهم.
وأما ابن شهاب الزهري فهو معروف بانحرافه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ومخالطته لسلاطين بني أمية وقد صاحبهم من عبد الملك بن مروان إلى هشام بن عبد الملك، وعليه فمضمون الحديث يشير بأصابع التهمة إلى الزهري لا المسور.

٢. إن كان المسور كاذباً والزهري صادقاً فهذا يعني أنّ الإمام السجاد (عليه السلام) قد نقل عن المسور أكذوبته، وأما إن كان الزهري هو الكاذب فهذا يعني أنّه نسب الحديث إلى الإمام السجاد (عليه السلام) كذباً وأنّ الإمام لم ينقل هذا الحديث أصلاً، ومن البعيد جداً أن يحدّث الإمام السجاد أكذوبة وُضعت في ذمّ جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدح بني أمية وينقلها للآخرين.

٣. إنّ هذا الحديث قد نُقل عن المسور بطرق أخرى لا تمرّ بالزهري ـ كما سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى ـ، وليس فيها الكثير من الإضافات التي نُسبت إليه في هذا الطريق. ولو كان المسور هو الواضع لهذه الصيغة لكان من المفترض أن يكون الحديث الذي رواه عنه الآخرون بنفس هذه الصيغة التي رواها الزهري.

فالنتيجة: إنّ هذه الصيغة مضافاً إلى أنّها ليست الصيغة التي يستدلّ بها الشيعة ويعلقونها في مدنهم [لحذف الفقرة التي يعتمدون عليها منها]، فهي من موضوعات الزهري ولا يصحّ نسبتها إلى المسور، وعليه فإذا أردنا أن نستكشف واقع ما رواه المسور خالياً عن تغييرات الزهري وحذفه وإضافاته فينبغي أن نرجع إلى الطرق الأخرى للحديث، فتابع.

ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات حول حديث إغضاب الزهراء (عليها السلام) - الحلقة الأولى

بقلم الشيخ: محمد جاسم.

كتب ميثاق العسر عدّة مقالات تضمّنت شبهة ملخصها: إن الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله): «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني» الذي يحتجّ به الشيعة على المخالفين ويستدلون به على مقام الزهراء (عليها السلام) والطعن في ظالميها إنّما ورد بسند صحيح عند العامّة عن صحابي اسمه المسور بن مخرمة في قضية تتضمّن إغضاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لها بخطبته لبنت أبي جهل. ولا يمكن الاعتماد على هذه الفقرة من الحديث إلا مع الاعتماد على تطبيقها أيضاً، فإنّنا إمّا أن نقبل من المسور بن مخرمة روايته للأمرين ونعترف أنّ المصداق لهذه الفقرة هو أمير المؤمنين (ع)، وإمّا أن نرفض روايته للأمرين فلا نعتمد على هذه الفقرة ولا نستفيد منها في القضايا المذهبية. هذا بالنسبة إلى رواية المسور بن مخرمة، وأما غير روايته فلم ترد هذه الفقرة بطريق صحيح غير ذلك لا عند العامّة ولا عند الخاصّة، فلا يمكن أن نعتقد بصدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله).

وللجواب عن ذلك لا بدّ أن نتحدّث أولاً عن رواية المسور بن مخرمة التي تمثّل الطريق الرئيس لهذا الحديث عند أهل السنة، وثانياً عن الطرق الأخرى لهذا الحديث التي لا تمرّ بالمسور.. فكلامنا يقع في محورين:

(المحور الأول): في حديث المسور بن مخرمة.
وهناك عدّة ملاحظات فيما كتبه المستشكل حول هذا الموضوع..

[الملاحظة الأولى]: إنّ علينا أن نميّز بين بُعدين لهذا الحديث..
١. (البعد الجدلي): ويعني الاستفادة من الحديث في الاحتجاج به على أهل السنّة، ولا يلزم من ذلك أن نعتقد بما ورد في هذه الرواية من التطبيق لهذه الفقرة على أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فإنّ الاحتجاج هو إلزام الآخر بما ألزم به نفسه وتنبيهه على بطلان عقيدته ببيان التهافت الداخلي في مبانيه، ولا يعني ذلك اعتقادنا بما نلزمه به. فمثلاً: لو فرضنا وجود حديث لدى الشيعة يتضمّن صدور فعل من الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) لا يتناسب مع عصمته واحتجّ المخالف علينا بهذا الحديث لمنافاته لاعتقادنا بالعصمة، فمن الواضح أنّا لا نستطيع أن نقول له إنّ هذا الحديث يتضمّن وجود الإمام المهدي فيلزمك أن تعتقد بوجوده حتى تحتجّ به علينا؛ وذلك لأنّه هو الّذي يلزمنا بما نلتزم به ـ بحسب الفرض ـ لا نحن الذين نلزمه.
٢. (البعد البرهاني): وهو أن نعتقد نحن بصدور هذا الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) ونرتّب عليه بعض عقائدنا. وهذا يتوقّف على أن يثبت عندنا صدور هذا الحديث عن طريق أدلّة ومؤشرات موضوعية، ووجود هذا التطبيق الذي نقطع ببطلانه في حديث المسور سيكون مانعاً لنا عن أن نعتمد على الحديث بهذا السند والطريق "بمفرده ومن غير ضمّ قرائن وطرق أخرى إليه".

وبهذا يظهر لك ما وقع فيه المستشكل من الخطأ في بعض كلماته، فإنّه انتقل من عدم التزام الإمامية بحادثة خطبة بنت أبي جهل إلى عدم إمكان أن يحتجّوا به على المخالفين، وهذا الانتقال ناتج عن الخلط بين البعد الجدلي والبعد البرهاني للحديث. فالصحيح أنّا نستطيع أن نلزم المخالفين بهذا الحديث ونقول لهم أنّ عليكم أن تلتزموا بأنّ الله ورسوله غاضبان على من ماتت الزهراء (عليها السلام) غاضبة عليهم، وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو وإن أغضب الزهراء ـ بحسب حديثكم هذا ـ إلا أنه تراجّع عن ذلك ورضيت عنه الزهراء، فهو ليس مصداقاً لهذا الحديث عندكم؛ إذ الأمور بخواتيمها.

يتبع..

السبت، 23 فبراير 2019

[18] ميثاق العسر والكذب على السيد الخوئي – الحلقة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق العسر والكذب على السيد الخوئي – الحلقة الثانية

بعد أنّ بيّنا ضعف فهم ميثاق العسر لعبارة السيّد الخوئي في بحثه حول الولاية التشريعيّة، حاول أن يُصلح فساد استدلاله ووهن حُجَّته بتقديم المزيد من الحجج الفاسدة، وقبل أن نُجيب على ما طرحه ينبغي أن نُذكِّر القرَّاء بما يلي:

لقد كان الكلام حول تمامية احتجاج علماء الشيعة بحديث «يؤذيني ما آذاها» على مخالفيهم، وبعد أنّ بيّنا سقوط شبهته في هذا الموضوع بما مرّ في المقالات السابقة، فرَّ ميثاقُ العسر-فرار العبيد- إلى مواضيع أخرى لا ربط لها بأصل البحث، وهكذا تمضي الأيام ليرى المتابع كيف أنّه بدأ بالانسحاب من البحث الأساسيّ، وبدأ بمحاولة صرف أنظار القُرَّاء إلى مسائل فرعيّة، فلماذا يتهرّب من إكمال البحث؟!
إنّ أصل البحث معه كان في حديث «يؤذيني ما آذاها»، وقد انقطع عنه منذ أيامٍ، وصار متشاغلاً بأمورٍ جانبيّة، رغم أنّه وعد متابعيه بالكثير من الوعود لإجابة تساؤلاتهم، فآخر ما كتبه في شأن ذلك الحديث كان في (18) فبراير وإلى اليوم (23) لم يستمرّ البحث فيه، فهل هي أمارةُ الإفلاس؟ أم ماذا؟ ولا سيّما بعدما تبيّن فساد جلّ ما طرحه في مقالاته الأولى والتي أُرغِم على إعادة تدويرها بصورة أخرى، ومع ذلك فنّدناها بما تقدّم من مقالات.

أما بالنسبة إلى محاولة ترقيعه للإشكال على السيّد الخوئي، فجوابه:
1. لقد حاول ميثاق العسر أن يجعل قول السيد الخوئي (ومما يدل على ثبوت الولاية التشريعية..) دالاً على أنّ السيد يستدلُّ برواية الترمذيّ كدليل تامٍّ عنده، وبيّنا أن كلمته إنما هي ناظرة إلى جهة الدلالة المضمونيّة مستندين إلى القرينة التي نقلها العسر نفسه، ومفاد هذه القرينة أنَّ الاستدلال بالرواية يتمّ على فرض تمامية سندها، فدلالة روايةٍ على أمرٍ ما لا تكفي عند الفقهاء للاستدلال بها؛ لأن الحديث ربما يدل على المطلوب ولكنه من حيث إثبات صدوره ضعيفٌ سنداً.
ومما يشهدُ لذلك أيضاً جملة من كلمات السيد الخوئي وهو يتعرَّضُ لبعض الأدلة في بحوثه، فإنّه يعبّرُ بتعبير (يدلُّ) ليشير إلى الدلالة المضمونيّة فقط، ومن ثم يعطف عليها بالكلام في (إثبات الصدور)؛ لأن الاستدلال لا يتم إلا بعد إحراز تمامية الجهتين: الدلالة والصدور.
ومن عباراته المشيرة إلى هذا الأمر:
أولاً: قال في بحثه الفقهي: (وقد دلّت على ذلك صريحاً موثَّقة السكوني ورواية رزيق إلا أنّها لضعفها سنداً غير قابلة للاستدلال بها في المقام. نعم؛ نجعلها مؤيّدةً للمُدَّعى) (1).
ثانياً: وقال أيضاً: (وهذه الرواية وإن كانت تدل على اعتبار الأعلميّة المطلقة في المفتي إلا أنّها ضعيفة سنداً لإرسالها. إذن؛ لا يمكن الاستدلال بها بوجهٍ..) (2).
ثالثاً: وقال أيضاً: (وهذه الرواية دلَّتْ على أنه إنما يقضيهما إلى أن يغتسل للجمعة لأنه يرفع الجنابة فيصح صومه وصلاته، إلا أنها ضعيفة ومن هنا جعلناها مؤيّدة للمُدَّعى) (3).
رابعاً: وقال في معجمه في وصف أحد الرواة: (أقول: ورد في عدة روايات ما يدلّ على حُسنه، ولكنها بأجمعها ضعيفة لا يُعتمد على شيءٍ منها) (4).
خامساً: وقال في معجمه أيضاً: (أقول: هذه الروايات وإن دلّت على جلالة داود الرقي إلا أن جميعها ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها) (5).

أقولُ: وهذه الشواهد تشيرُ بوضوحٍ إلى أنّ مفردة (دلَّ- دلَّت-يدلُّ- تدلُّ) في كلام السيد الخوئي تستعمل للإشارة إلى دلالة المضامين الروائية، ولا يُراد بها محض الاستدلال الإثباتي الشامل لجهتي الدلالة وإثبات الصدور، فهل يمكن الاستناد إلى قوله (يدلّ) لإثبات أنّ الرواية دليلٌ مقبولٌ عنده؟ أم أنه ناظرٌ إلى جهة دلالة الألفاظ فقط؟ وأنّ هذه الدلالة بحاجة إلى متمّمٍ لها وهو (إثبات الصدور)!

2. بعد أن تبيّن أنّ كلمة السيد الخوئي لا تدلّ على اعتماده على رواية الترمذي، حاول ميثاق العسر أن يُعزِّزَ فهمه السقيم بكلامٍ لأحد العلماء الأعاظم (حفظه الله) بمقطع مُسجَّلٍ يذكر فيه تعرّض السيد الخوئي لرواية الترمذي، إلا أنّ محل كلامنا في المقال السابق كان حول عبارة السيّد الخوئي التي نقلها ميثاق العسر من كتاب (التنقيح في شرح المكاسب) الذي قرره الشيخ الشهيد الميرزا علي الغرويّ، أما كلام ذلك الفقيه فهو ناظرٌ إلى كلام السيّد الخوئي في كتاب (مصباح الفقاهة) الذي قرره الشيخ محمد علي التوحيديّ التبريزيّ، والنَّصان في الكتابين مختلفان، إذ إن عبارة التنقيح تحتوي على قرينةٍ واضحةٍ تكشفُ عن عدم كون السيد الخوئي في مقام اعتبارها دليلاً تاماً على مطلوبه، وهذه القرينةُ ليست موجودة في عبارة السيد الخوئي في كتاب (مصباح الفقاهة)، وبالتالي: فالمقطع الصوتي الذي وضعه ميثاق العسر لا يصلح للنقض؛ لاختلاف المنظور إليه عند ذلك الفقيه المجتهد عن المنظور إليه في نقاشنا مع هذا المتخبّط [راجع الوثائق المصوّرة في ذيل المقال].

ومما يبعثُ على التعجُّب أنّه يتحدّى ويتحدّى، وليس في جعبته إلا تكرار كلمة (يدل) بين الحين والآخر، وقد أصبح واضحاً بما لا مزيد عليه أنها لا تفي بمطلوبه، وأوضح من ذلك أنّ استشهاده بكلام ذلك الفقيه لم يكن إلَّا خروجاً عن محلّ النزاع.
وبهذا يتبيّن أنّ مستوى إحاطة العسر بفهم عبارات الفقهاء ضئيلٌ جداً؛ ولعلَّ انشغاله بالصفّقِ في أسواق الارتزاق عند المرجعيّة المصطنعة التي اصطنعها لأستاذه كان مانعاً من اكتساب المهارة في فهم كلمات الفقهاء والمحققين، والله العالم بحقائق الأمور.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: موسوعة الإمام الخوئي، ج8، ص155.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى: موسوعة الإمام الخوئي، ج1، ص117.
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى: موسوعة الإمام الخوئي، ج7، ص61.
(4) معجم رجال الحديث، ج7، ص44.
(5) معجم رجال الحديث، ج8، ص128.


لرؤية الصور بشكل واضح، يُرجى الضغط عليها، ولا سيما للمتصفّح عبر الهاتف المحمول.

كلام السيّد الخوئي في كتابه (التنقيح)، وفي عبارته قرينةٌ على كون كلامه عن الدلالة اللفظية للرواية دون اعتبارها دليلاً، وفي خاتمة الفقرة أشار إلى توقّف الاستدلال بها على تماميّة السند، وهو لم يشر إلى اعتبارها سنداً عنده، أما عبارة كتاب (مصباح الفقاهة) فهي مختلفة عن هذه العبارة، ولا تحتوي على هذه القرائن المبيّنة لمراد السيد الخوئي، فكيف جعلها العسر قرينة على صحّة فهمه لعبارة السيد الخوئي في كتاب التنقيح؟! 

تمسُّكه بعبارة (يدلّ) جهلاً منه بأسلوب السيد الخوئي في تناول الأدلة الفقهيّة.


الأسلوب الفيسبوكيّ المعهود عند الوهابية (لغة التحدّي)، هل هذا يلائم لغة التنوير؟!
وليت ما استعمله في تحدّيه كان ملائماً لإبطال جواب من ردُّوا عليه!

استعمال الأسلوب الوهابي في شتم الشيعة بإطلاق بعض المصطلحات المعهودة في إعلام الوهابية من قبيل (عَبَدة المراجع)، فهل هذه لغة تنويريّة؟! مضافاً إلى الكذب والافتراء على من يقومون بالرد عليه حيث يصفهم بأنّهم تربّوا في أحضان الوهابية، وهو في ذلك كاذبٌ مطلقاً، ويستعمل مثل هذه الادّعاءات لتشويه خصومه، وإلا فهل لديه دليلٌ واحدٌ على ما ادّعاه؟


الأربعاء، 20 فبراير 2019

[17] ميثاق العسر والكذب على السيّد الخوئي - الحلقة الأولى


بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق العسر والكذب على السيّد الخوئي - الحلقة الأولى

من الواضح في عملية الاستنباط الفقهي عند السيّد الخوئيّ (رحمه الله) أنه لا يبني حُكماً شرعيَّاً من خلال حُجَّةٍ غير معتبرة عنده، وهو بهذا النّحو يتعامل مع روايات علماء الشيعة، فكيف إذا كانت الرواية من طرق أهل السنة، فإنّ الذي يُخضِعُ روايات الشيعةِ للفحص السنديّ والتمحيص الدلالي، فهو من باب أولى يقوم بذلك بالنسبة إلى روايات أهل السنة، ولا يتعامل معها على أنها حجج مسلَّمة لا نقاش فيها.

ومن هنا: إذا رأينا في كلمات السيد الخوئيّ إشارةً إلى روايات العامّة، فهو يذكرها عَرَضاً من باب الإشارة إلى وجود هذا الحكم عندهم، أو للإشارة إلى وجود مدارك عندهم تؤيّد ما يذهب إليه الإمامية.

وقد حاول ميثاق العسر أن يفتريَ على السيد الخوئي (رحمه الله)، فاتّهمه بأنّه يخلط في بحثه الفقهي بين أدلّة الاستنباط وأدلة الاحتجاج، فزعمَ أنّ السيد الخوئي قد استدلّ بروايةٍ من روايات العامة في بحث الولاية التشريعيّة، وقد بلغت به الجرأة على استحلال الكذب فزعم قائلاً إنَّ (المرحوم الخوئي يوظِّفُها في ميدان بحثه الفقهي العقائديّ الداخلي، ويحاول أن يجعلها أحد الأدلة على ثبوت الولاية التشريعيّة..إلخ)، فيالله والجرأة على التدليس والكذب!

 والحال أنّ السيد لما أورد حججه المُثبتة لهذا الأمر، ذكر رواية الترمذيّ من باب الشاهد التاريخيّ، وغاية ما قاله حول هذه الرواية أنّها من حيث الدلالة تامّة، وأنّها تصلح للاستنباط في حال كان سندها معتبراً، قال السيد: [وهذه الرواية على تقدير تمامية سندها تدلّ على المقصود بأحسن وجه]، ولكن هل يوجد في عبارته ما يدلّ على اعتباره للرواية، وأنها دليلٌ قائم بنفسه في عملية الاستدلال؟

الجواب: لا يوجد تصريحٌ من السيد الخوئي باعتبار هذه الرواية عنده، وغاية ما أشار إليه هو أنّها من حيث الدلالة تامّة، أي أنها من جهة الدلالة تدلّ على إثبات الولاية التشريعية، أما من حيث إثبات صدورها، فهو لم يشر إلى اعتبارها سنداً، بل قال إنها تصلح للاستدلال على تقدير تمامية سندها، أي إذا فرضنا أنّ السند معتبرٌ فهي صالحة وإلّا فلا، والفرق واضحٌ بين التصريح بكونها حجّة وبين التصريح بأنها حجّة إذا ثبت سندها، فيظهرُ جلياً أنّ السيد الخوئي قد علّق صحة الاستدلال بهذه الرواية على ثبوت السند، وهذا السند لا يثبت وفقاً لمبانيه كما هو معلوم.

والجديرُ بالذكر: أنّ ميثاق العسر قد جاء بهذا المقطع من كلام السيد الخوئي وبتره من سياق البحث، فإنّ السيد الخوئي قد استدلّ على ثبوت الولاية التشريعية ببعض آيات القرآن الكريم ومن ثمّ ببعض روايات الإمامية المروية في كتبنا المعتبرة، ما يعني أنّ العمدة في الإثبات لهذا القول هو أدلتنا الشرعيّة، أما رواية العامة فلم يُثبتها السيد الخوئي، وليتَ الكذّاب المدلّس يأتي بكلام السيد الخوئي في تصحيح سند هذه الرواية أو ما يشير إلى اعتبارها عنده.

وهنا ينبغي الإلفات إلى أمرٍ: وهو أنّ ميثاق العسر قد جاء بهذا الشاهد ليثبّت مزاعمه بأنّ علماء الإمامية لا يميّزون بين ما هو للاحتجاج وما هو للاستدلال، وأنّ هذا التفريق والتمييز لا يدّعيه سوى [صغار الطلبة..]، ونحن نقول: هذه كلمات السيّد الخوئيّ أمامكم، فاقرؤوا بحثه، وانظروا هل يصحح هذه الرواية ويقبلها كدليل قائم بنفسه أم لا.

ومع ذلك كلّه: هذا خروجٌ عن أصل النزاع، فكلامنا في المقالة الأولى كان حول شبهة «عدم تمييز علماء الإمامية بين مقامي البرهان والجدل فيما يخصّ حديث غضب الزهراء (عليها السلام)»، وقد فنّدناها، ولمّا أفلسَ العسر بعد أن أسقط الردُّ شبهتَه قفز إلى الاستدلال بما جاء في بحوث الولاية التشريعيّة، وليته كان صادقاً، فلماذا الخروج عن أصل البحث والقفز إلى أبحاث أخرى؟

يبدو أن بُعد العهد عن دروس الحوزة العلميّة والاستئناس بالمباحث الفيسبوكيّة السطحيّة جعلا ميثاق العسر قاصراً عن فهم مناهج الاستنباط عند الفقهاء وعباراتهم، وهذا حال من استبدل العلم والتحقيق بالتشكيك ومغازلة الوهابية في الفيسبوك وتويتر، بحثاً عن أبواب ارتزاقٍ جديد بعد أن أقفل أستاذه صاحب المرجعيّة المصطنعة أبواب الرزق أمامه، والله من وراء القصد!

إبراهيم جواد
قم المقدسة (زادها اللهُ شرفاً)
14 جمادى الآخرة 1440 هـ