الاثنين، 11 فبراير 2019

[3] لماذا لم تستخدم الزهراء (عليها السلام) لوح جابر لإثبات الإمامة؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال:
يقول بعض المشككين في النصّ على الأئمة (عليهم السلام): (لا زلت حائراً: تُرى لماذا لم توظّف السيّدة فاطمة الزّهراء “روحي لها الفداء” وهي تحاجج الخليفة الأوّل: الّلوح الزّمرّدي الأخضر الّذي أهداه الله إلى رسوله “ص” والّذي حمل اسماء الخلفاء الإثني عشر بعد أبيها “ص” مفصّلاً كما في الخبر؟! أ لم تكن قادرة على إلزام خصومها بهذه الحجّة السّماويّة الدّامغة بدل الدّخول معهم في نقاشات تمكّن الطّرف الآخر من تجاوزها ببساطة؟! اعتقد: إنّ استثمار لحظات بسيطة من الوقت للتّأمّل والتّفكير المجرّد ستوصلكم إلى عمق الدّهليز الّذي أدخلنا الأكابر فيه دون شعور منذ قرون طويلة تحت عناوين وهم التّواتر والاستفاضة الّتي يكذّبها الواقع التّاريخي لأشخاص الرّواة وللمرحلة الّتي عاشوا فيها، والله من وراء القصد).

الجواب:
إنّ السيدة الزهراء (عليها السلام) تمتلك اللوح الإلهي الذي نُصَّ فيه على أسماء الأئمة عليهم السلام وتمتلك ما لا يعلمه إلا اللّه من الحُجج والنصوص على الأئمة صلوات الله عليهم، ولكنّ الإنسان في مقام المناظرة والاحتجاج يُبرزُ من الحُجج ما يكون مُفحماً للخصم، والاحتجاجُ بالحديث لن يكون ذا ثمرةٍ؛ لأن أولئك الخصوم قد سمعوا نصّاً مباشراً من النبي (صلى الله عليه وآله) في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومع ذلك خالفوه ورفضوه، وعندما عاد النبيُّ لكتابة الوصيّة اتهموه بأنّه كان يهجر، فما هي الفائدةُ في إيراد مثل هذا الحديث للاحتجاج؟ إقامة الحجّة؟ هي مُقامة بأيّ حال، وقد شهدوها عياناً وأنكروا، فلا بد من سلوك سبيل آخر للإفحام والإلزام.
ثمّ إنّ الخصوم الذين عادوا الزهراء (عليها السلام) قد كذَّبوها في دعوى نحلة فدك لها، فكيف سيصدّقونها في أمرٍ هو أعظمُ من ذلك؟ وحينها لن يكون الاحتجاج مع هؤلاء المكذّبين نافعاً، ولن تكون له أي قيمة إضافيّة.
يُضاف إلى هذا، أنّ الزهراء صلوات الله عليها، والمسلمون وقتئذٍ يعرفون من هي الزهراء، وقفت بوجه الشخص الأول الممسك بالسلطة، وكذّبته في نسبته حديثاً لأبيها، ومع ذلك لم يقنعهم وجود الزهراء بنفسها وخصومتها لأبي بكر وتكذيبها له وكل ذلك ظاهر للعيان، ثم إنَّ المشكِّك يفترضُ أنّ هؤلاء لهم قابليّة الاقتناع بشيء قد يكون خاصاً وهم غير مطّلعين عليه وقت صدوره، وهذا غير متصوَّر، فإنّ من يعاند النصَّ الذي سمعه مباشرة، سيكون إنكار ما نُقل إليه بالواسطة أكثر سهولة بالنسبة إليه.
وهنا نكتةٌ محوريّة في فهم احتجاجات أهل البيت (عليهم السلام) على مخالفيهم، وهي أنّهم - صلوات الله عليهم - دائماً ما يُبرزون الأدلّة التي تكونُ منسجمةً مع معايير الخصوم، فهذا أبلغ في إقامة الحجج، وأقوى في الإلزام للخصم، وهنا نضرب مثالاً:
إنّ معاوية بن أبي سفيان يعلمُ يقيناً ببعض النصوص التي صدرت من النبي (صلى الله عليه وآله) على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولو لم يكن يعلم فيكفي أنّ تلزمه الحجّة برواية أمير المؤمنين - وهو الصادق الأمين - لأخبار النبي (صلى الله عليه وآله) في النص على إمامته، وحيثُ إنّ معاوية قد سدّ أبواب الاحتجاج عليه بهذه الأخبار بإصراره على الإنكار، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ألزمهُ بإمامته وطاعته ببرهانٍ وفقاً للمنطق الذي يتغنّى به معاوية، وحاصله: إنّ معاوية يلتزمُ بصحّة خلافة الثلاثة، فألزمهُ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بوجوب طاعته بقوله إنّ خلافته ثابتة من جهة الشورى أيضاً، فقد بايعني نفسُ الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، فإن كنت تقبل خلافة الثلاثة، فيلزمك القبول بخلافتيّ، وإن لم تقبل بخلافتي فيلزمك أن تنكر خلافة الثلاثة المذكورين، وهذا من أشدّ أنواع الإفحام والقوّة في صناعة البرهان، بخلاف ما لو قال له: أروي عن فاطمة بنت رسول الله حديثَ اللوح، فإن معاوية سوف يتظاهرُ بالإنكار ويكذّبه ويُنهي القضية بوقت أسرع، فأي البرهانين أقوى وأوضح؟
رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال لمعاويةَ في كتابٍ أرسله إليه: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردَّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج من أمرهم خارجٌ بطعن أو بدعةٍ ردُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين، ..إلخ)(1)، فنجدُ أمير المؤمنين هنا يرتّب برهانه وإلزامه لمعاوية على أمرٍ يلتزمُ به معاوية نفسه، وقد كان مقيماً للحجة بذلك.
وله - سلام الله عليه - براهينَ أخرى في إلزام القوم وفقاً لمنطقهم، ومن ذلك قوله: (واعجبا، أتكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالصحابة والقرابة؟!)(2)، وهو في هذا يردُّ على المهاجرين الذين احتجّوا على الأنصار بأنّهم أقربُ إلى النبيّ، فألزمهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّه إن كان المناط في خلافة النبي هو القرب منه، فالمهاجرون أقربُ من الأنصار، ولكننا أقربُ من المهاجرين والأنصار.
وفي ذلك يقول في رسالةٍ أخرى لمعاوية: (ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله فلجوا عليهم، فإن يكن الفلجُ به، فالحقُّ لنا دونكم)(3)، ويريدُ بذلك أنّه إن كان الدليلُ على الخلافة هو القرب من النبي كما احتجّ المهاجرون على الأنصار فنحن الأقربُ إلى النبي من المهاجرين والأنصار معاً، فتكون الخلافةُ لنا.
والحاصل: وهذا نمطٌ بديعٌ ومنهجٌ رصينٌ من الاستدلال عند أئمتنا (عليهم السلام) في دحض حجج الخصم وإبطال قوله؛ لأن إلزام الخصم بما يكون حجّة لديه هو الأقوى في الإفحام، ولا سيّما إذا كان الخصمُ ينكرُ ما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).


ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة، ص559، المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله، الكتاب السادس: من كتابٍ له إلى معاوية، الناشر: العتبة العلوية المقدسة، تحقيق: قيس العطار، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1437 هجريّة.
(2) نهج البلاغة، ص745، المنتزع من حكم أمير المؤمنين ومواعظه، رقم الحكمة 179، الناشر: العتبة العلوية المقدسة، تحقيق: قيس العطار، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1437 هجريّة.
(3) نهج البلاغة، ص587، المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله، الكتاب الثامن والعشرون: من كتابٍ له إلى معاوية، الناشر: العتبة العلوية المقدسة، تحقيق: قيس العطار، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1437 هجريّة.