الثلاثاء، 12 فبراير 2019

[12] النصّ على الإمام الكاظم (ع) بين المحكمات والمتشابهات


بسم الله الرحمن الرحيم
النصّ على الإمام الكاظم (عليه السلام) بين المحكمات والمتشابهات

قد يقع السؤال عن سبب عدم إعلام الإمام الصادق (عليه السلام) شيعته بخليفته وتركه إياهم في حيرة بعد وفاته ـ على ما وصفته بعض الروايات ـ، والظاهر أنّ هذا التساؤل البدوي ناتج عن قياس تلك الحقبة الزمنية بزماننا الحالي حيث انتشر التشيّع وبات الشيعة يصرّحون بعقائدهم، إلا أنّ الوضع في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) لم يكن على هذه الحال، بل كانت العقيدة الشيعية محظورة وكان المنصور الدوانيقي يخطط لقتل الإمام اللاحق.
ومن هنا كان على الإمام الصادق (عليه السلام) أن يجمع بين مهمين..
أحدهما: حفظ خليفته والشيعة من بطش المنصور؛ لكيلا تضيع الجهود التي بذلها هو والأئمّة من قبله في حفظ هذا المنهج وتنميته.
والثاني: إقامة الحجة الواضحة في شأن إمامة الكاظم (عليه السلام) على أصحابه وبقية الشيعة إلى زماننا، كي لا تندرس معالم الحقّ، ولا تُغلق الأبواب على من أراد معرفة الحجّة في جميع الأزمان.
ومن الواضح أنّ الأمر الأول يقتضي كتمان الخليفة بينما يقتضي الأمر الثاني الإعلان عنه، والجمع بين هذين المهمّين اللذين يتوقّف عليهما بقاء دين الله سبحانه عسير جدّاً، لكنّ الإمام الصادق (عليه السلام) استطاع بحكمته القيام بذلك عن طريق مجموعة من الخطوّات التي يمكن تلخيص بعضها في عدّة نقاط:

١ـ النصّ على إمامة الكاظم (عليه السلام) لجملة من أصحابه، وقد كان ذلك بشكل غير علني وغير شامل لجميع الشيعة ـ لما سيأتي توضيحه ـ، لكنّه كان بمقدار يحقق الغرض من وجود فئة سمعت النصّ على الإمام الكاظم (عليه السلام) ونقلته للطبقات اللاحقة.. وقد كان هذا النصّ مبطّناً ومرموزاً في بعض الأحيان ممّا يكشف عن حجم للتقيّة والتكتّم في هذا الموضوع، وأذكر هنا مثالين من ذلك..
الأول: ما روي عن عبد الرحمن بن الحجاج أنّه سأل الإمام الصادق (عليه السلام) والإمام الكاظم (عليه السلام) جالس عن يمينه: (جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن ولي النّاس بعدك؟ فقال: إنّ موسى قد لبس الدرع وساوى عليه، فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء) [الكافي: ٣٠٨/١].
الثاني: ما روي عن صفوان الجمّال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: إنّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن موسى ـ وهو صغير ومعه عناق مكّية وهو يقول لها: اسجدي لربّك ـ، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمّه إليه وقال: بأبي من لا يلهو ولا يلعب) [الكافي: ٣٠٨/١].

٢ـ عدم الإعلان عن الإمام اللاحق لجمع من أصحابه حتى لا يقع الإمام الكاظم (عليه السلام) والشيعة في خطر، وليس لازم ذلك عدم وثوق الإمام بهم ـ كما ادُعي ـ، بل يمكن للكثير من الخطوات العفوية وغير المقصودة أن تلفت الأعداء إلى خليفة الإمام كتردد الشيعة على منزل الإمام الكاظم (عليه السلام) أو إخبار من يوثق به مع عدم كونه ثقة أو نحو ذلك، وفي حديث هشام بن سالم: (وذلك أنّه كان له ـ أي للمنصور الدوانيقي ـ جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر عليه السلام عليه، فيضربون عنقه) [الكافي: ٣٥١/١].
ولا يصحّ الاعتراض: بأنّ حيرة الشيعة يدلّ على عدم نصّ الإمام الصادق (عليه السلام) على ابنه لأحد منهم.. فإنّه يكفي في حيرة الشيعة عدم معرفة جمع منهم الإمام وعدم اتفاق كلمتهم على شيء، ولا ينافي ذلك إلقاء النصّ على بعضهم. وقد لاحظتُ ما ورد من الروايات في نصّ الإمام الصادق (عليه السلام) على الكاظم (عليه السلام) ـ وهي تزيد عن أربعين رواية ـ فلم أجد في رواتها من ورد النصّ على وقوعه في الحيرة كهشام بن سالم ومؤمن الطاق، وهذا بحدّ ذاته منبّه على عدم تهافت الأمرين.
[ولذا التجأ البعض إلى رواية نقلها العلامة المجلسي في البحار عن كفاية الأثر للخزاز القمّي يروي فيها هشام بن سالم (الذي ورد في نصّ آخر نقل حيرته وجهله بالإمام اللاحق) نصّاً يتضمّن ذكر الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم (وليس هو من النصوص الخاصّة في الإمام الكاظم، ولا من النصوص العامّة المذكورة في الكتب الأهمّ من هذا الكتاب كالكافي وكمال الدين والعيون)، وجعل ذلك دليلاً على كون نصوص الإمام من الأدلّة بعد الوقوع. ويرد عليه..
(أولاً): إنّ الموجود في كفاية الأثر هو أنّ الراوي للحديث هو: "هشام" من غير تحديد اسم أبيه، وقد نقل العلامة المجلسي الحديث عن كفاية الأثر في البحار في موضعين ورد في أحدهما "هشام" من غير تحديد اسم أبيه أيضاً، وأضيف في الثاني: "هشام بن سالم"، فإضافة "بن سالم" غير موجودة في الكتاب الأصلي، وعليه فيحتمل أنّ يكون الراوي هو هشام آخر كهشام بن الحكم لا هشام بن سالم.
(ثانياً): إنّ بطلان نصّ واحد في كتاب كفاية الأثر لا يثبت بطلان عشرات النصوص في هذه المسألة كما هو واضح.
(ثالثاً): لم يوضّح الكاتب الوجه في جعله رواية الحيرة حاكمة ومقدّمة على رواية كفاية الأثر، وعدم القيام بالعكس].

٣ـ ترتيب الأمر بنحو تتضح فيه إمامة الكاظم (عليه السلام) بعد فترة من وفاة الإمام الصادق (عليه السلام) وتقوم الحجّة الواضحة عليه؛ وذلك لأنّ فترة وفاة الإمام هي فترة تركّز الجواسيس والبحث عمّن تتفق كلمة الشيعة عليه ـ كما تقدّم في رواية هشام بن سالم ـ، ولذا اقتضى ذلك أن يكون الشيعة في حيرة وأن لا يدعوهم الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى نفسه إلى حين مرور مدّة من الزمان، فيدعوهم إلى إمامته بعد ذلك ويبيّن لهم الحجة عليها. وهذا ما حصل فعلاً إذ رجع أغلب الشيعة إلى الإمام بعد مرور فترة يسيرة من حيرتهم، وذلك بعد أن أظهر لهم علمه وأجاب عن اختباراتهم وأسئلتهم، ولم يكن هناك شخص آخر يُحتمل في حقّه أن يكون إماماً؛ إذ لم يدعِ خلافة الإمام الصادق (عليه السلام) أحد غيره وغير أخيه عبد الله الأفطح، وعبد الله لم يكن مؤهلاً للإمامة لجهله وعدم قدرته على إجابة أسئلة الأصحاب أولاً، ولوفاته بعد سبعين يوماً من أبيه ثانياً، ممّا أدى إلى رجوع جميع الأصحاب ـ إلا الشاذ منهم ـ إلى الإمام الكاظم (عليه السلام)؛ لظهور علمه وللنصوص الواردة في عدم اجتماع أخوين في الإمامة بعد الحسن والحسين (عليه السلام).. وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال للإمام الكاظم (عليه السلام): (يا بني، إنّ أخاك سيجلس مجلسي ويدعي الإمامة بعدي، فلا تنازعه بكلمة فإنه أول أهلي لحوقا بي) [اختيار معرفة الرجال: ٥٢٥/٢]، فوفاة عبد الله بعد فترة قريبة كفت الإمام الكاظم (عليه السلام) مؤونة الردّ عليه بما يلفت أنظار النّاس وينافي التكتّم المطلوب في هذه المسألة.

٤ـ جعل الإمام الصادق (عليه السلام) وصيته في عدّة أشخاص هم: الإمام الكاظم (ع) وأخوه عبد الله والمنصور الدوانيقي، وأضافت بعض الروايات: ابنته حميدة، وأحد مواليه، ووالي المدينة.. ممّا أدى من جهة إلى عدم قدرة المنصور على قتل وصي الإمام ـ كما كان يخطط له ـ، وقال بعد اطلاعه على الوصية: (ما إلى قتل هؤلاء سبيل!)، وأدى من جهة أخرى إلى وضع الإمام الكاظم (عليه السلام) في دائرة من تُحتمل إمامته، بل تعيينه نظراً لعدم صلوح الباقين لذلك، وقد ورد في بعض الأخبار أنّ أبا حمزة الثمالي قد تفطّن إلى إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام) عند اطلاعه على الوصية.

أخيراً أقول: لقد أقام الإمام الصادق (عليه السلام) الدلائل الواضحة على إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام) من بعده رغم تلك الظروف الصعبة والمخاطر المحيطة به، واستطاع بعلمه وحكمته أن يحفظ هذه الطائفة حتى يصلوا ـ بعد ضعف وقلّة ـ إلى ما هم عليه من القوّة والكثرة، فعلى الطالب للحقيقة أن يتمسك بالمُحكمات المتمثلة بتلك النقاط الساطعة والحجج القاطعة التي نصبها الإمام الصادق (ع)، وأن يرد المتشابهات ونقاط الحيرة والغموض ـ التي نتجت عن ظروف التكتّم والتقيّة ـ إلى تلك المحكمات.