الاثنين، 18 فبراير 2019

[15] نقض شبهات ميثاق العسر حول حديث (يؤذيني ما آذاها) – الحلقة الثانية


بسم الله الرحمن الرحيم
نقض شبهات ميثاق العسر حول حديث (يؤذيني ما آذاها) – الحلقة الثانية

بقلم الشيخ: إبراهيم جواد.

المرحلة الثالثة: وفيها سوف نبحث عن دلالة الحديث وكلام أهل السنة من جهة وقوع مذمَّةٍ باقيةٍ على أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما لو فرضنا أنّه خطبَ بنت أبي جهلٍ وفقاً لقواعد أهل السنة.

مقدّمة:
أشرنا في الحلقة الأولى إلى أنَّ وجود قصّة خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) بنت أبي جهل لا يضرُّ باستدلال الشيعة بالحديث على أهل السنّة، وذلك أنّ مقام الإلزام لا يُوجِبُ الإيمان بصدور الحديث أصلاً؛ لأننا نلزمهم بما يلتزمون به، ورغم أنّ هذا الإشكال ظهر من الحلقات الأولى للمشكك، إلا أنّه حاول التفلُّتَ منه بعد ظهور ركاكته، ولجأ فيما بعد إلى إبرازِ تصويرٍ آخر لتهمة التبعيض التي نسبها إلى الشيعة، وقد وقع في تصوير أكثر وهناً مما سبقه، إذ حاول «التذاكي» بطريقة أخرى يُفسِد بها استدلال الشيعة، فقال في تعليقٍ له على المقال الأوَّلِ، ما نصّه: (أمّا محلّ حديثنا: فأنا لا أنكر على جماعتنا أن يحاججوا أهل السُنّة بمثل هذه الرّواية، ولكنّ انتقد محاججتهم إيّاهم من خلال التّبعيض، بل ينبغي أن نقول لهم: لقد ثبت عندكم إنّ عليّاً "ع" أغضب الزّهراء "ع" حينما أراد الزّواج عليها فقال له رسول الله "ص": "فاطمة بضعة منّي من آذاها آذاني"، وحيث قد ثبت في صحاحكم أيضاً: إنّ فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر، إذن فهو قد آذى رسول الله "ص" أيضاً كما آذى عليّ "ع" رسول الله "ص" أيضاً!! هذا كلّ ما أريد قوله،..).

فهو هنا يتظاهرُ بأنّه لا يمانع من الالتزام بأنّ أبا بكر آذى رسول الله في ابنته، ولكنّه يريدُ أن يُفسد استدلال الشيعة بإلزامهم أن يقولوا خلال محاججة أهل السنة: إنّ علياً (عليه السلام) آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله)!
وهذا الكلام فاسدٌ، ولا يصحّ إلزام الشيعة به، كما أن أهل السنة لا يلتزمون به وفقاً لما تفيده أدلّتهم، وهنا نعودُ مرَّةً أخرى إلى تعليم هذا المتحاذق المتذاكي قواعد الإلزام وشيئاً من فنون الاستدلال، فنقول:
إنَّ الحديث عن وقوع أبي بكر مصداقاً لغضب الزهراء (عليها السلام) مما لا شكَّ فيه، ورواية البخاري واضحةٌ في ذلك أشدّ الوضوح، وهذا لا كلام لنا فيه.
أما بالنسبة إلى محاولة إلزام الشيعة في احتجاجهم على أهل السنّة بأنّ علياً (عليه السلام) قد آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّه مصداقٌ للإيذاء أيضاً، فهذا لا يصح وفقاً للمعطيات الموجودة في أدلة أهل السنة، وذلك ببيان وجهين- والكلام وفقاً للمنهج السنيّ -:
الوجه الأوّل: أنه خلاف دلالة أحاديث خطبة بنت أبي جهل وسياق الأحداث.
الوجه الثاني: أنّ علماء أهل السنة لم يلتزموا بذلك، ولم يستنبطوه من الروايات.

فيظهرُ أنّ ميثاقَ العسر - بكلّ حماسٍ وثقة - يحاول رفع سقف شروط الاستدلال بنحوٍ لا يدّعيه أهل السنة أنفسهم، بل يحاول فرض شروطٍ للاستدلال يخجلُ الوهابيّة من فرضها؛ لأنهم يعلمون أنّ أحاديثهم لا تساعد على مثل هذا المُدَّعى.

أما بيان الوجه الأول فيتضح من خلال هذه النقاط:

أوَّلاً: وفقاً للروايات السنيّة المعتبرة وتبعاً لمنهجهم في التحليل،  فإنّه يبدو من الرواية أنّ علياً (عليه السلام) لم يكن عالماً بأنّ ذلك مما تكرهه السيّدة الزهراء (عليها السلام)، أو لم يكن مما انقدح في ذهنه بأن هذا تكون عاقبته بهذا النحو، وحينما بلغهُ كلام النبيّ حول خطورة أذيّة الزهراء انصرفَ عن الأمرِ بشكلٍ نهائيٍّ، ويشيرُ إلى ذلك بعض الروايات والسير التاريخي للأحداث.

أما الروايات، فمنها ما رواه أحمد بن حنبل في كتابه (فضائل الصحابة): (نا أبو اليمان قال: أنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني علي بن حسين أن المسور بن مخرمة أخبره أن علي بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكحاً ابنة أبي جهل.
قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته حين تشهد ثم قال: «أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني، وأنا أكره أن يفتنوها، وإنها والله لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل واحد أبداً» قال: فنزل علي عن الخطبة).
قال المحقق وصيّ الله بن محمد عباس: (إسناده صحيح)(1).
ورواه مسلم في «صحيحه» من طريق أبي اليمان بإسناده، ولفظه: (فترك عليٌّ الخِطبةَ)(2).
وفي مرسل الشعبي، قال بلفظ: (لا آتي شيئاً تكرهه) (3).
وفي مرسل ابن أبي مليكة، قال بلفظ: (فسكت عليٌّ عن ذلك النكاح وتركه) (4).
إذن؛ من جهة الروايات: هي تشهدُ بأنّ علياً (عليه السلام) قد انصرف عمّا يؤذي الزهراءَ وأباها صلوات الله عليهما، وأهل السنة يلتزمون بصحّة بعض هذه الروايات المذكورة.

وأما السير التاريخي للأحداث فواضحٌ، فإنّه لم يُنقل لنا نقلٌ صحيح ولا ضعيف أنّ علياً (عليه السلام) قد بقي مُصرَّاً على الزواج بابنة أبي جهلٍ، فهذا يعني أنّه قد أرضى الله ورسوله بترك ما يُؤذي الزهراء (عليها السلام)، وبذلك رضي الله ورسوله عنه؛ لأنه تجنَّبَ ما يؤذي سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، فهل المنصرف عن الخطأ يبقى مذموماً؟ وكيف يكون مع انصرافه وتركه مستحقاً للغضب؟ وهل هذا إلا إجحافٌ وظُلمٌ؟! وواضح جدَّاً كما عُبِّرَ عند بعضهم بما حاصله أنَّ «العدالة تسقطُ بالإصرار على الذنب، وبالنسبة لأمير المؤمنين عليه السلام بحسب الروايات السنيّة فإنها تُظهرُ عدم علمه بحكم إغضاب فاطمة فلا إثم عليه، وبالتالي هذا لا يمسُّ عدالتَهُ بعكس القوم وإصرارهم على الذنب حباً للمال والرئاسة».

ثانياً: لو سلّمنا أنّ علياً (عليه السلام) كان عالماً بأنّ إقدامه على الخِطبة سوف يؤذي النبيَّ والزهراء (صلوات الله عليهما) فهذا غايةُ ما فيه أنّهُ ذَنبٌ، والتائبُ من الذنب الراجع عنه كمن لا ذنب له، فإنّه نزل على طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد ماتت الزهراء (عليها السلام) وهي راضية عنه، ولم يرد أنّه آذاها فيما بعد، على أنّ ادّعاء مثل هذه الدعوى يحتاجُ إلى دليل، فإنّه لا يظهرُ من الروايات السُّنيَّةِ أنّه كان عالماً باستلزام الخِطبة للأذيّة، فتأمَّل.

أما بيان الوجه الثاني: فإنّ علماء أهل السنة لا يلتزمون بأنّ علياً (عليه السلام) مصداقٌ للأذيّة ومستحقٌّ للغضب بهذا اللحاظ؛ لأنّه ترك الأمر الموجب للغضب والأذى بشكل تامّ، وهنا نذكر جملة من أقوال علمائهم:

1. قال الطحاوي في (شرح مشكل الآثار): (فكان في هذه الآثار أن علياً عليه السلام قد كان خطب تلك المرأة، فاحتمل أن يكون ذلك كان منه وهو لا يرى أنّ ذلك يقعَ من رسول الله الموقعَ الذي وقع منه، فلما علم بذلك تركه وأضربَ عنه، واختار ما يَحْسُنُ موقعه من رسول الله فلزِمَهُ فكان على ذلك محموداً) (5).

2. قال القرطبيّ في (المُفهم): (وقوله: «فترك عليٌّ الخطبة» يعني: لابنة أبي جهل وغيرها، ولم يتزوَّج عليها ولا تسرَّى حتى ماتت رضي الله عنها) (6).

3. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (وجاء أيضاً أن علياً استأذن بنفسه فأخرج الحاكم بإسناد صحيح إلى سويد بن غفلة - وهو أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه -، قال: خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أعن حسبها تسألني؟» فقال: «لا، ولكن أتأمرني بها؟» قال: «لا، فاطمة مضغة مني ولا أحسب إلا أنها تحزن أو تجزع». فقال علي: «لا آتي شيئاً تكرهه»، ولعل هذا الاستئذان وقع بعد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بما خطب ولم يحضر علي الخطبة المذكورة فاستشار فلما قال له: «لا» لم يتعرض بعد ذلك لطلبها، ولهذا جاء آخر حديث شعيب عن الزهري: فترك علي الخطبة) (7).

4. قال العينيّ في (عمدة القاري): (وكان عليٌّ رضي الله تعالى عنه قد أخذ بعموم الجواز، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن الخطبة) (8).

5. قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحيّ: (قوله: «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن» يعني في المستقبل، وإلا فإنّ علياً لا يُمكن أن يستمرَّ في الخطبة بعد علمه عدم إذن النبيّ)(9).
فانظر إلى كيفيّة استدلال الوهابيّ وتعامله مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكيف أنّ ميثاق العسر يتغالى في التشديد على الاستدلال بالحديث ويضع مزيداً من القيود عليه بحيث يُضعف استدلال الشيعة ويوهنه بادّعاء أمورٍ لا تثبت بدلالة الحديث ولا بدعوى أهل السنة أو التزامهم!!

بل صرّح بعضهم أنّ خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) وكلامه على المنبر لم يكن لمنع عليٍّ (عليه السلام)، ولا كان موجَّهاً إليه، بل أراد النبيُّ أن يُبرِزَ الحُكمَ والحِكْمةَ قطعاً لنشر الخبر حول الخطبة وما يلحقه من تأويلات، قال موسى شاهين لاشين: (ولا مانع من كون الخطبة بعد استشارة عليّ رضي الله عنه، وبعد وعده بعدم الزواج منها، إذ لم تكن الخُطبة [يقصد خطبة النبي على المنبر] لمنعِ عليٍّ، وإنما كانت لبيان الحكم والحكمة، قطعاً لنشر الخبر وتأويلاته) (10).

ومن هنا يظهرُ لكَ: أنّ ما يرغبُ به ميثاق العسر من جعل الحديث السنيِّ دالاً على كون أمير المؤمنين مصداقاً لأذيّة النبي والزهراء (عليهما السلام) لا يلتزمُ به الوهّابية، ولا تنطقُ به الأدلّة، فكيف اخترع هذا؟ ومن أين أتى به؟ هذا ما يتّسمُ به منطقه، فهو يخترعُ من كيسه ما لا حظّ له من التحقيق والإنصاف، ومع ذلك يتشدّقُ به على الملأ، فكان بذلك ضارباً بالسهم الأخيب ورامياً بأفوق ناصلٍ، ولله في خلقه شؤون!

ومع ما تقدَّمَ: كيف يصحُّ جعل أبي بكر وأمير المؤمنين (عليه السلام) على نفس الكفّة؟! فإنّ الزهراء ماتت غاضبةً على أبي بكر كما ثبت بالدليل الصحيح ولم تأذن بحضوره في دفنها، أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنّه بمجرد علمه بأنّ تلك الخِطبة تؤذي النبيَّ والزهراء (صلى الله عليهما) تركها فوراً، بينما أبو بكر مع إغضابه للزهراء (عليها السلام) بقي مصرَّاً على ما هو فيه حتى ماتت غاضبةً عليه، فشتّان ما بينهما!

فيتحصّل من ذلك: أنّ أبا بكر وحده هو المصداق لأذيّة رسول الله والزهراء (صلوات الله عليهما) دون أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا ما تنطقُ به الروايات السنيّة والسير التاريخي للأحداث، وبذلك لا يقدرُ أهل السنة على أن يدَّعوا أنّ أمير المؤمنين مشمول بالغضب وفقاً للحديث، وهم لا يدّعون ذلك، ولا ادَّعوا ذلك أصلاً، وأمّا دعوى العسر هذه فهي من إفراطِه في بناءِ منهج استدلالٍ متشدِّدٍ بنحو يتفوّقُ فيه على شروط الوهابية وتعنّتهم في الحوار، فليُتأمّل هذا الأمر كثيراً، والله المطّلع على السرائر.

والنتيجة: إنَّ استدلال علماء الشيعة لا يقوم على التبعيض كما ادّعى هذا المشكِّكُ، فاحتجاجهم بالحديث على أهل السنة منضبطٌ وفقاً لمعايير المناظرة والإلزام، فهم لا يرون علياً (عليه السلام) مصداقاً للغضب عليه، وذلك لما ثبت من تراجعه وانقياده لكلام النبي (صلى الله عليه وآله)، أما بالنسبة إلى ما عند الشيعة فهو أهون؛ لأن إقدام الإمام على خِطبة بنت أبي جهل لم يثبت عندهم مطلقاً، فوقوع الغضب عليه منتفٍ تماماً، وبذلك يتمُّ الاحتجاج على أهل السنة من هذه الجهة، وهو تامٌّ بلا إشكالٍ، والحمد لله رب العالمين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فضائل الصحابة، ج2، ص947-948، رقم الحديث 1329، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، الناشر: دار ابن الجوزي-الدّمام، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1420هـ/1999م.
(2) صحيح مسلم، ج6، ص300، رقم الحديث 2526، كتاب ذكر فضائل أصحاب النبي، باب فضائل فاطمة بنت النبي، ح3، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات بدار التأصيل، الناشر: دار التأصيل – القاهرة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1435هـ/2014م.
(3) فضائل الصحابة، ج2، ص944-945، رقم الحديث 1323، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، الناشر: دار ابن الجوزي-الدّمام، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1420هـ/1999م.
(4) فضائل الصحابة، ج2، ص948، رقم الحديث 1330، تحقيق: وصي الله بن محمد عباس، الناشر: دار ابن الجوزي-الدّمام، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1420هـ/1999م.
(5) شرح مشكل الآثار، ج12، ص516، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة- بيروت، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1427هـ/2006م.
(6) المُفهم لما أُشكل من تلخيص كتاب مسلم، ج6، ص354، تحقيق: محيي الدين مستو-يوسف بديوي-أحمد السيد-محمود بزّال، الناشر: دار ابن كثير-دمشق، الطبعة: الرابعة، سنة النشر: 1429 هـ/2008م.
(7) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج11، ص680-681، اعتنى به: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، الناشر: دار طيبة-الرياض، الطبعة: الثالثة، سنة النشر: 1431هـ/2010م.
(8) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ج16، ص230،  الناشر: دار الفكر – بيروت، مصوّرة عن طبعة  إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها: محمد منير عبده آغا الدمشقيّ.
(9) منحة الملك الجليل شرح صحيح محمد بن إسماعيل، ج9، ص445، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1434هـ/2013م.
(10) فتح المنعم شرح صحيح مسلم، ج9، ص414، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1429هـ/2008م.