الثلاثاء، 19 فبراير 2019

[16] الشيخ الكليني ورواية «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة»


بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ الكليني ورواية «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة»

بقلم الشيخ: إبراهيم جواد.

يعتبر كتاب الكافي من أهمّ الكتب الحديثية عند الإمامية، ومن هذا المنطلق أراد ميثاق العسر أن يطرح شكوكاً حول حديث غضب فاطمة (عليها السلام) من خلال عدم إيراد الكلينيّ رحمه الله لهذا الحديث في كتابه، وحاول أن يطرح احتمال أنّ سبب عدم رواية الكلينيّ لهذا الحديث هو وجود مشكلةٍ فيه أو أنّه غير مهم بالنسبة إليه، فقال: (وهل يُعقل توافر هذا الحديث الهامّ في كتب أصحاب الأصول الّتي استقى الكلينيّ رواياته منها لكنّ الله سلبه التّوفيق من رؤيته مثلاً؟! أو إنّه رآه لكنّه جزم بعدم أهميّته وفائدته قياساً بما ذكره من مفردات عن خصوصيّات فاطمة "ع" خلافاً لما شعر به الّلاحقون المذهبيّون من أهميّة بالغة له في الحِجاج مع الآخر واستنباط عشرات المقولات المذهبيّة العميقة؟! أو لا هذا ولا ذاك وإنّما لجزمه بكونه من الموضوعات المنحولات؟!).

وتوهُّمُ احتمالِ أنّ عدم رواية الكليني لهذا الحديث بسبب مشكلةٍ في صدوره أو لجزمه بعدم أهميّته عبارة عن خيالاتٍ فاسدةٍ، ولا يصحُّ التمسُّكُ بها، ونوضِّحُ هذا عبر النقاط التالية:

أولاً: إنَّ عدم رواية الكليني للحديث في الكافي، ومن ثمّ احتمال أنه تركه لأنه غير معتبر عنده، توهُّمٌ يتّكئ على استدلالٍ ناقصٍ يعاني من وجود ثغرةٍ فيه، حيث قفزَ المشكِّكُ بين المقدمة والنتيجة تاركاً فراغاً لا بُدَّ من ملئِه، فإنّه يلزمه - لتقوية هذا الاحتمال - تثبيت مقدّمةٍ في رتبة سابقة وهي أنّ الكليني كان في مقام حصر جميع الروايات المعتبرة عنده، وحينها يمكننا أن نستنبطَ أنّ ما أهمله هو مقدوحٌ فيه عنده، فهل هناك دليلٌ يشيرُ إلى أنّ الكليني كان يهدفُ إلى جمع كلّ الأحاديث المعتبرة التي رواها أصحاب الأئمة (عليهم السلام)؟!

ثانياً: إنّ أخبار فضائل فاطمة (عليها السلام) ومناقبها وخصائصها في كتاب الكافي قد أفردها الشيخ الكليني في كتاب (الحُجَّة)، وهذا الكتاب قد أفرده للحديث عن المعصومين وصفاتهم، وهو في عمله لهذا الكتاب قد بنى على عدم التوسعة الوافية كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه، حيثُ قال إنّه لم يستوفِ كُلَّ ما لديه فيما يخصُّ الأحاديث في شأن كتاب الحُجَّةِ، وصرَّح بأنّه عازمٌ على تأليف كتابٍ أكبر منه يوفيه حقوقه فيه، قال رحمه الله: (ووسَّعنا كتابَ الحُجَّة قليلاً وإنْ لم نكمله على استحقاقه، لأنّنا كرهنا أن نبخسَ حظوظه كلها، وأرجو أن يُسهِّلَ اللهُ عزَّ وجلَّ إمضاءَ ما قدَّمنا من النيَّةِ إنْ تأخَّرَ الأَجلُ صنَّفْنَا كِتاباً أَوسعَ منه، نوّفيه حقوقَهُ كُلَّها إنْ شاء الله تعالى) [الكافي، ج1، ص18].
وهنا لا بدّ أن نشير إلى أنّ عدد الأحاديث التي رواها الكليني في الباب الخاصّ بالسيدة الزهراء سلام الله عليها في كتاب الحُجَّة هو (10) أحاديث، أما الأحاديث الأخرى التي رواها في شأن بعض ما يتعلق بالزهراء (عليها السلام) فقد جاءت عَرَضاً في سياق الأحاديث الفقهية والعقائديّة وغيرها، وكلامنا هنا عن المناقب والفضائل التي موضعها كتاب الحجة.
فهل يحتمل أن كل ما ثبت عنده في حقّها هو عشرة أحاديث فقط؟ إذا تأمّلتَ ما ذكرهُ في المقدمة سيتضح لك جلياً أنّ الكليني بنى في كتاب الحجة على الاختصار، وأنه لم يكن متوسِّعاً بما فيه الكفاية.
وبناءً على هذا: فإنّه لا يمكن احتمال أنّ كلَّ ما لم يروهِ الكلينيُّ في كتاب الحجَّةِ ليس معتبراً عنده؛ لأنّه صرَّحَ بأنه لم يضع في كتاب الحجة كل ما لديه، وأنّه لا زال لديه الكثير من الأحاديث التي تستحقّ أن تُروى في كتاب الحُجَّةِ، وقد نوى أن يُصنِّفَها في كتابٍ مستقلٍ أوسع من ذلك الكتاب.

ثالثاً: إنّ الاتكاء على مثل هذه الدعاوى للتلويح بضعف الحديث عند الكليني نابعةٌ من الجهل بطريقة المحدِّثين في تأليف كتب الحديث، فإنّ غالبهم لم يكن في مقام حصر كل الأحاديث، ولهذا نرى أنّ بين أحاديثهم مناطق مشتركة ومناطق يتفرّد بها بعضُهم دون البقيّة، فقد ترى حديثاً عند الكليني والصدوق ولا تراه عند الخزّاز القمي، وقد ترى حديثاً عند النعماني ولا تراه عند الطوسي، وهكذا.. فإنّ كلاً منهم لمّا صنَّف كتبه لم يكن عازماً على جمع كل ما رُوي في الموضوع الذي صنَّفَ فيه، وهذا الأمر ليس حكراً على الشيعة الإمامية، بل موجودٌ عند أهل السنة أيضاً، فإنّ البخاري ومسلم رغم ما بذلاه من جهدٍ لجمع الحديث الصحيح قد تركا كمَّاً كبيراً من الأحاديث الصحيحة على شروطهما، حتى جاء مِنْ بعدهما مَن استدركَ عليهما، وهذه النكتة تجري في مصنِّفي الصحاح والسنن والمسانيد عند أهل السنة أيضاً، فتأمّل.

رابعاً: أما دعوى احتمال أن الكليني رأى الحديثَ وجزم بعدم أهميّته وفائدته، فهي من الرجم بالغيب، وهل كان المشكك من طلاب الكليني ومعاصريه المطّلعين على أحواله عن قرب ليحتمل مثل هذا الاحتمال؟! وهذه الدعوى الاحتماليّة يكفي في خدشها احتمالُ شيء آخر، وهو أنّه يُحتمل أن الكليني رأى الحديث ونوى أن يضعه في كتاب الحجة، ويقويّ هذا ما ذكره أنه لم يستوفِ كل ما لديه في شأن أحاديث كتاب الحجة، فما المرجّح لمثل هذا الاحتمال على غيره؟

ومن هنا: لا ينبغي أن يُحتمل في حقِّ حديثٍ ترك روايته محدِّثٌ ما أنّه مخدوشٌ عنده لمجرد عدم روايته له، فإنّ هذا لازم أعمّ، ولا يصح الاستناد إليه في استنباط علّة ترك روايته.
وبهذا يظهرُ لك: أنّ ميثاق العسر يحاول أن يسجِّلَ كل ما هبَّ ودبَّ للإشكال على الحديث ولو بدون  تأمُّل في مناهج الحديث ومباني المحدّثين ومسالكهم، وجديرٌ بمن هذا مبلغهم من الدقّة في النظر أن تكون إشكالاتهم بهذا المستوى السطحيّ.

مما ذكره الكليني في المقدمة لكتاب الكافي، وفيها نصَّ على أنه لم يستوفِ كل الأحاديث في كتاب الحجّة، وأنه سيصنف كتاباً أكبر منه إن تأخر أوان موته.