الأحد، 24 سبتمبر 2023

نقد الزيدية (2) || أحاديث الإمامة وصفات الإمام من أهل البيت (عليهم السّلام) في حديث الزيديّة

بسم الله الرحمن الرحيم
نقد الزيدية (2) || أحاديث الإمامة وصفات الإمام من أهل البيت (عليهم السّلام) في حديث الزيديّة

الأصل الأوّل الذي يقوم عليه التشيّع هو مرجعيّة أهل البيت (عليهم السّلام) بمقتضى حديث الثّقلين، والذي ينصّ على أنّ التمسّك بالقرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السّلام) عاصمٌ من الضّلال، ومن هُنا يُبنى على أنّ العصمة فيهم لازمةٌ؛ لأنّ غير المعصوم ليس مأموناً من الدّخول في مقولات الضّلال أو الانجرار خلف الأباطيل في أمر الدّين والحُكم. وقد نُصّ في بعض أخبار الزيديّة على عصمة أصحاب الكساء الخمسة، فقد روى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجانيّ الشجريّ في أماليه بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وآله في تفسير آية التطهير: (فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب..)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص198، رقم الحديث 733. ولا أدري هل انقضتِ الحاجةُ إلى العصمة، فلم يشترطوها فيمن بعده؟ أم كانت تلك العصمة فيهم على نحو الفضل والزيادة؟
وعلى أيّ حالٍ: فالمتّفق عليه بيننا وبينهم إمامة أمير المؤمنين والحسنين (عليهم السّلام)، وفيما بعد جعلوا الإمامة تنطبق على من انطبقت عليه شرائط الإمامة المذكورة في كتبهم. وقد اعتمدوا ضوابط ركيكة لا ترفعُ اختلافاً ولا توجب وِفاقاً، مع أنّ الإمامة أُوجِبَتْ لرفع لبس أمور الدين عن الخلق كما نصّ عليه بعض أئمتهم.
ومع ذلك نرى الزيديّة لم يشترطوا في الإمام أن يكون معصوماً ولا أن يكون ذا خصوصيّة إلهيّة في علمه، بل هو بمنزلة الفقيه المجتهد حاله حال الشّافعي وأبي حنيفة، ولذا جوّزوا الاجتهاد ومخالفة الأئمّة السّابقين في الجملة.
والإشكال الذي نطرحه هنا أنّنا إذا نظرنا إلى بعض الرّوايات عند الزيديّة في صفة الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام نعلم أنّها لا تنطبق على أكثرهم، وفي هذا المقام، سنورد الأخبار الواردة في هذا الباب، ومن ثمّ نذكر طرفاً من أحوال أئمّتهم في العلم بالدّين.
صفات الأئمّة من آل محمّد في مرويّات الزيديّة:
الأوّل: روى الشّريف الرضيّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام: (هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه)، انظر: نهج البلاغة، ص545، المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السّلام وأوامره، رقم الخطبة 237.
الثّاني: روى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجانيّ الشجريّ بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وآله: («من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها ربي عز وجل بيده، فليتول علي بن أبي طالب وأوصياءه، فهم الأولياء والأئمة من بعدي، أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي، إلى الله عز وجل أشكو من ظالمهم من أمتي، والله لتقتلهم أمتي لا أنالهم الله عز وجل شفاعتي»)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص179، رقم الحديث 667. واحتجّ به الإمام المهديّ لدين الله محمّد بن القاسم الحوثيّ في كتابه (الموعظة الحسنة، ص46).
الثّالث: روى الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الجرجانيّ الشجريّ بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وآله: (لا تعلِّمُوا أهل بيتي فهم أعلمُ منكم، ولا تشتموهم فتضلوا)، انظر: الأمالي الخميسية، ج1، ص205، رقم الحديث 763.
الرّابع: قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة: (فلو لم يكن في ذلك إلّا ما رويناه بالإسناد الموثوق إلى أبينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: أيّها النّاس، اعلموا أنّ العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيئكم، فأين يُتاه بكم عن أمرٍ تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السّلم كافّةً، وهم باب حطّة من دخله غُفِرَ له..)، انظر: شرح الرّسالة النّاصحة بالأدلّة الواضحة، ص551.
الخامس: قال أيضاً: (قوله: (نصّ بذاك جدُّهم خير البشر): لما رُوي عن النبيء -صلّى الله عليه وآله وسلّم- أنّه قال: تعلّموا منهم ولا تعلّموهم، فإنّهم أعلمُ منكم صغاراً، وأحكم منكم كباراً)، انظر: شرح الرسالة الناصحة بالأدلّة الواضحة، ص551.
فهذه نبذةٌ يسيرةٌ من أخبار الزيديّة في صفة أهل البيت عليهم السّلام، وهي تبيّن أنّهم ممتازون عن الأمّة علمائها وغيرهم بعدّة صفات:
1- الأعلميّة، وعدم تفوّق أحدٍ عليهم علمياً.
2- أنّ علمهم وفهمهم هو علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفهمه.
3- لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه.
4- أنّهم ورثة العلوم التي أنزلها الله على الأنبياء (عليهم السّلام).
وهذا لا ينطبق على غير أئمّتنا الاثني عشر (عليهم السّلام)؛ فلم يدّعِ أحدٌ ذلك سواهم، ولم يُدَّعَ ذلك لأحد غيرهم، إلّا ما أُثِر من مقولاتٍ شاذةٍ أتت بها فرقٌ مندثرة، فمن استقرّت عليه الحالُ من فرق أهل الإسلام اليوم لا يدّعون ذلك لأئمّتهم سوانا، فهم المصداق الوحيد لهذه الروايات.
وبالنسبة للزيديّة، فلا ينطبق على أئمّتهم شيء من هذه الشروط:
أمّا الأعلميّة: فما ظهر لنا دليلٌ على أعلميّة أئمّتهم -بل ظهر خلاف ذلك-، بل بعضهم أقرّ بعدم تفوّقه على الباقر والصّادق صلوات الله عليهما كما في رواية الصحيفة السجّادية من قول يحيى بن زيد رحمه الله حينما سأله المتوكّل بن هارون: (يا ابن رسول الله، أنتم أعلم أم هم؟)، فقال: (كلّنا له علمٌ، غير أنّهم يعلمون كلَّ ما نعلم، ولا نعلمُ كُلَّ ما يعلمون)، وهو صريحٌ في اختصاصهما بعلمٍ لا يُظفَر به عند أحدٍ من الأمّة الإسلاميّة سواهم.
وأمّا دعوى أنّ علمهم وفهمهم هو علم وفهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فهذه خصلة فريدة عالية لم نر أحداً تطاول لادّعائها من أئمّتهم، ومن يدّعيها فعليه بالبرهان.
وأمّا عدم مخالفتهم للحقّ وعدم اختلافهم فيه: فهذه أبعدُ ما تكون عن سيرة أئمّة الزيديّة، فقد اختلفوا فيما بينهم، ويرون جواز مخالفة اجتهادات الأئمّة السّابقين، وهذه كتبهم تشهد باختلاف الأقوال فيما بينهم، وفيها ما لو حُقّق فيه لعُلم أنّه خلاف الحقّ وشريعة سيّد المرسلين، ومن ذلك ما هو منثورٌ في مسائل التوحيد والإمامة، وجملة من مسائل الفقه في أبواب مختلفة.
وأمّا وراثة علوم الأنبياء: فما رأيناهم يدّعون وراثة صحف إبراهيم وموسى وغيرها من مواريث الأنبياء، ولا حتى من علومهم، بل أكثر حديث أئمّتهم وعلمهم له جذورٌ في حديث أهل السنة وكلام المعتزلة، فهم ورثة أهل الحديث والمعتزلة، وما عَلِمْنا أنّ في أولئك أنبياء؛ بل إن جملةً من أئمّة الزيدية -الذين يُدّعى أنّهم مفترضو الطّاعة- وأنّهم مصداق لهذه الروايات أخذوا أخبار النبيّ -صلّى الله عليه وآله- ورواياته عن محدّثي أهل السنّة والإماميّة، ولو مُحِّصت أمالي أبي طالب الهارونيّ وأخيه أحمد والإمام يحيى بن الحسين الجرجانيّ الشجريّ صاحب الأمالي الخميسيّة والاثنينيّة لبان لنا أنّ نسبةً وافرةً منها مأخوذةً من مصنّفات أهل السنّة والإماميّة، ولو أقيمت دراسات حديثيّة دقيقة وخُرِّجت هذه الرّوايات وتمّ تتبع أصولها لكان سهم أهل السنة فيها وافراً، وللإمامية نصيبٌ أيضاً، ومن الطّريف أن جملةً من هذه الأحاديث التي نقلوها في كتبهم هي موضوعاتٌ مكذوبةٌ باعتراف العامّة قبل غيرهم، بل بما يشهدُ به التّحقيق، ودونك ما في الأمالي الخميسية والاثنينية من العجائب والغرائب المسلسلة بالمجاهيل والكذّابين. هذا مع وجود النصوص على تلقي العترة بالقبول للأمالي الخميسيّة.
والحاصل: إنّ أئمّة الزيديّة عيالٌ في الحديث على المحدّثين عند العامّة والإماميّة، وعيالٌ في الكلام على المعتزلة وما تجود به أذهانهم من مخترعاتٍ لا أصل لها في الشّريعة، ولا يقرّ بها عاقل، وقد أخذوا جملةً وافرةً منها عمّن ذكرنا، وبذلك تكون المعادلة الزيديّة: تعلّم الحديث والكلام من غيرك، ثم انتصب للإمامة بالسّيف، فتكون إماماً مفترض الطّاعة، وبمعجزةٍ زيديةٍ تصبح مصداقاً لـ(لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم) و(لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه).
وأيّ عاقلٍ مثلاً يقبل أنّ أبا طالب الهارونيّ أو أخاه أو المرشد بالله الجرجانيّ وأمثالهم ممّن ركض خلف الخاصّة والعامّة لجمع حديث رسول الله في القرن الرابع والخامس هو مصداقٌ لتلك الأحاديث الواردة في صفات آل محمّد؟
على أنّ هذا الأمر لا يخلو من طرافة وظرافة؛ فليتهم جمعوا الأحاديث جمع الخبير البصير، بل كانوا كحطّاب ليلٍ لا يميّزون المكذوب من الصّحيح، وهذا ما سنشير إليه قريباً.

الخميس، 21 سبتمبر 2023

نقد الزيديّة (1) || لماذا الإماميّة دون الزيديّة؟

بسم الله الرحمن الرحيم
نقد الزيديّة (1) || لماذا الإماميّة دون الزيديّة؟

سأل أحد الإخوة الأعزّاء سؤالاً مفاده: أنّ الباحث السنيّ أو غيره بعد علمه بضرورة اتّباع الثّقلين تبعاً للحديث الصّحيح المرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، لماذا يختار أكثر المستبصرين مذهب الإماميّة دون الزيديّة، مع أنّ الزيديّة ترفع راية إمامة أهل البيت عليهم السّلام، وترى أئمّتها مصداقاً للحديث النبويّ؟
والكلام في هذه المسألة طويلٌ جدّاً، ويحتاج إلى دراسة تاريخيّة وعقائديّة لمذهب الزيديّة، وسوف أشير إليها إجمالاً في منشورات لاحقة، إلّا أنني أطرح -من باب المقدّمة- النّظرة العامّة إلى مذهب الزيديّة، وجملةً من وجوه الخلل في الطرح العقائديّ لديهم، والتي سنفصّل الكلام فيها لاحقاً.
والذي يظهر من خلال مطالعة كتب التاريخ والكلام أنّ الزّيديّة في بدو أمرها كانت حركةً سياسيّةً، وسرعان ما تحوّلت إلى قالب دينيّ للحفاظ على وجودها؛ إذ كان الدّين هو مدار حياة الجماعات في القرون الأولى، وهو الذي يمكن أن يُسبغ صفة الشّرعيّة على مسيرتها، فكان لا بدّ من "مذهبة" هذه الحركة السياسيّة الثوريّة، ولذا اضّطرت -كغيرها من المذاهب كالعبّاسيّين وأمثالهم- إلى التّنظير والتقعيد الكلاميّ لادّعاءاتها، فضلاً عن اختلاق الأحاديث السّخيفة التي تفوح منها رائحة الوضع، ومع ذلك لم يخلُ أمرهم من معضلاتٍ وعقباتٍ تتعلّق بمسألة إمامة أهل البيت (عليهم السّلام) ومدى مصداقيّة كون أئمّتهم مصداقاً لحديث الثقلين وما ورد في الأحاديث من ذكر صفات الأئمّة، ومدى انطباقها عليهم. والأمر الآخر وهو الكلام في ميراث النبيّ والوصيّ -صلوات الله عليهما- ومدى صدق تحقّق دعوى الوراثة.
هذا ما سأتكلّم عنه تحديداً -وله فروع كثيرة-، ثم إن سنحت الفرصة نشير إلى ذكر مسائل متفرّقة تتعلق ببحث الجهاد والتقيّة وسيرة الأئمّة وغيرها إن شاء الله تعالى.

يُتبع..