السبت، 9 مارس 2019

ميثاق العسر واعتبار أسانيد حديث «إنّ الله يغضبُ لغضب فاطمة» - الحلقة الثالثة


بسم الله الرحمن الرحيم
ميثاق العسر واعتبار أسانيد حديث «إنّ الله يغضبُ لغضب فاطمة» - الحلقة الثالثة

بقلم الشيخ: إبراهيم جواد.

بيّنا في المقالتين السابقتين أنّ ميثاق العسر قد اعترفَ بأنّ الأسانيد الثلاثة التي روى بها الصدوق حديث «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة» فيها المُعتبر عند محققي وعلماء الإمامية، وبيّنا تحريفه لعبارته في منشوراته السابقة حيث كان يحاول الفرار من ذلك الإقرار المُرّ الذي أحرجه وبيّن تلاعبه وتقافزه بين الأقوال وفقاً لكلّ مرحلةٍ ومتطلباتها.

وفي قفزةٍ جديدةٍ للتشكيك في اعتبار الحديث، جاء بحديثٍ رُوي بهذه الأسانيد الثلاثة حول مرضٍ أصاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومنعه من القدرة على القيام بالصلاة والجماع، وحصول شفائه من المرض بطعامٍ - وهو الهريس - بعثهُ الله إليه فتعافى ببركته، وصار يُهرِّجُ أمام القُرّاء مستعملاً بعض الألفاظ التهريجيّة القبيحة حيث صار يحاول السخرية من شفاء النبيِّ بالهريس بوصفه بـ(فياجرا سماويّة) في ظلّ انحطاطٍ أخلاقيٍّ لم يسبق له مثيل، يكشفُ عن مدى الإفلاس والافتقار للدليل العلميّ، والالتجاء إلى الأساليب الوهابيّة في التهريج.
وقد انحطّ إلى هذا المستوى بهذا الفعل لإثارة الهمج الرعاع بهذه التشبيهات ظانّاً أنه يُوقِعُ الحرج في نفوسنا لنرفعَ اليد عن الاحتجاج بأسانيد الصّدوق الثلاثة، وأنّ ذلك التهريج يغنيه عن إيراد الدليل العلميّ المانع من قبول الرواية، وبذلك اكتفى بهذا المستوى المنحطّ، ولم يحترم عقول الناس، ولم يُبرز للقراء والمتابعين دليلاً قرآنياً أو عقلياً يُبطل مضمون تلك الرواية.
ومع ذلك نُعلِّق للإشارة إلى بعض النكات المتعلّقة بالتحقيق في علم الحديث؛ لتظهر ضحالة أطفال الفيسبوك وسطحيّتهم، فنقول:

أوّلاً: إنّ الإتيان بحديثٍ ما وممارسة التهريج عبر توظيفه بطريقة تلائم أساليب المخلدين إلى الأرض لن يُغطّي حقيقة الاعتراف مسبقاً بأنّ هذه الأسانيد الثلاثة معتبرة عند محققي وعلماء الإمامية، وهذا شاخصٌ أساسي في الإلزام ينبغي أن يكون حاضراً نصب الأعين.
ثانياً:  لو سلّمنا أنّ حديث الهريس أو غيره مما رُوي بالأسانيد الثلاثة فيه شذوذٌ أو نكارة، فإنّ أهل التحقيق في علم الحديث قاطبةً لا يُسقِطُون قيمة السند الذي رُويت عبره تلك الرواية الشاذة أو المنكرة؛ لأن بناءهم في ذلك على حجيّة المرويّ بالسند المعتبر ما لم تصب الرواية علّةٌ من العلل القادحة وفقاً للاصطلاح لديهم.
وعلى سبيل المثال: لو فرضنا أنَّ الكليني روى بسنده الصحيح: [علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم] خمسمائة رواية، وكانت كلها خالية من العلل إلا سبع روايات مثلاً ابتليت بالشذوذ أو النكارة أو إعراض المشهور عنها أو..إلخ، فهل يُسْقِطُ أهل التحقيق في الحديث بقيّة الروايات الواردة بهذا السند؟!
وبعبارة أخرى: هل شذوذ سبع روايات مثلاً يُسقط (493) رواية أخرى معها؟!
الجواب: هذا لا يقول به ولا يعملُ به فقيهٌ ولا مُحدِّثٌ أبداً، لا من السنة ولا من الشيعة، وهذه كتبهم المبسوطة في بيان قواعد علم المصطلح تشهدُ بذلك.
فيظهرُ لنا: أنّ مثل هذه العقليّة الحشويّة في النظر للأسانيد والتعامل معها تعتبر مناسبةً ولائقةً بمن انشغل بالتطبيل لبعض الدكاكين الشموليّة في قُم، ولم يدرس علوم الحديث بشكلٍ متقنٍ، وإلا فإنّ المحققين – سنة وشيعة – لا يلتزمون بمثل هذه اللوازم؛ لاتفاقهم على أنّ الثقة قد يغرب أو يشذ أو يخالف الأقران الأثبات وغير ذلك من العِلل مما هو مُفصَّلٌ في كتبهم، وفي المقام نذكرُ بعض كلماتهم المشيرة إلى هذا المعنى:
1. قال الشهيد الثاني في (البداية في علم الدراية): (واعلم أنّ من جوَّزَ العمل بخبر الواحد في الجملة قطعَ بالعمل بالخبر الصحيح حيثُ لا يكون شاذاً ولا مُعارضاً) (1).
2. قال الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي في (وصول الأخيار إلى أصول الأخبار): (إذا جاء الحديث بخلاف الدليل القاطع من الكتاب أو السُّنة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه من أيّ الأنواع كان؛ لأنّ هذه الأدلّة تفيدُ العِلْمَ والخبَرُ لا يفيده، وعلى هذا وقع الإجماع واستفاض النقل) (2).
3. قال ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات): (المستحيل لو صدر عن الثقات رُدَّ ونُسِبَ إليهم الخطأ، ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجمل قد دخل في سم الخياط لما نفعنا ثقتهم ولا أثرت في خبرهم لأنهم أخبروا بمستحيل..) (3).
وهذا يشيرُ إلى أنّ الإتيان بالشاذ والمُنكَر لا يرفع عن الثقات مسمّاهم، ولا ينفي صحة العمل بأخبارهم، وإنما يكفي ردّ الحديث المنكر أو الباطل إليهم مع بقاء مسمّى الوثاقة.
4. قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني: (قد تتوفر الأدلّة على البطلان مع أنّ الراوي الذي يصرح الناقد بإعلال الخبر به لم يُتّهم بتعمّد الكذب، بل قد يكون صدوقاً فاضلاً، ولكن يرى الناقدُ أنّه غلط أو أُدخِلَ عليه الحديث) (4).
وهذا يشيرُ إلى أنّ اعتبار السند يقتضي العمل بالخبر دائماً إلا في حالة ورود الشذوذ أو النكارة فإنها تشكل مانعاً عن العمل به؛ لظهور التعارض بينها وبين حُجَّةٍ أخرى هي أقوى منه، ما يؤدّي إلى رفع اليد عنها، أما في سائر الموارد الخالية عن الشذوذ والنكارة فإنّ الأصل هو الاعتبار والعمل به.
وفي المقام: حديث «إنّ الله يغضب لغضب فاطمة» لا يُعاني من أيِّ شذوذ أو تعارض، فكيف إن تكاثرت طرقه، وتوافرت شواهده، وتعاضدت قرائنه؟! فلا يبقى بعد ذلك إلّا المكابرة ممن أعمى الله قلبه وسلبه بصيرته..
أما بالنسبة إلى حديث الهريس: فلن نفصِّلَ القول فيه حالياً، ولكن ينبغي أن نذكّر القراء بأنّه لم يذكر علَّةً علميَّة قادحةً فيه، وإنما حاول مقاربة الأمر باستعمال بعض الألفاظ والتشبيهات القبيحة التي تكشف عن سوء تربيّةٍ وقلّة أخلاق، وليس هذا بالغريب ممن نبت لحمه من سُحت الدكاكين الشموليّة، ومع ذلك ننبه إلى أمورٍ في خصوص هذا الحديث:
الأول: إنّ العلماء والمحققين متفقون على أنّ المعصوم غير مصونٍ عن الإصابة بكافة أنواع الأمراض إلا ما كان باعثاً على التنفير منه، وذلك لأن في ابتلائه بالمرض المنفِّر للناس منه نقضٌ للغرض من البعثة، ومن هنا فإنّ إصابة النبي (صلى الله عليه وآله) بأيّ مرضٍ كان لا ينافيه أي دليل قُرآني أو عقلي، بل هذا ينسجم مع الجري وفق قوانين طبيعة جسم الإنسان، مضافاً إلى أنّ الرواية ناظرة إلى مرحلة اجتاز فيها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) سنّ الخمسين عاماً وهو عمرٌ يُتوقّع فيه أن يُصاب الإنسان بجملة من الأمراض، فلا غرابة في البَيْنِ.
الثاني: إنّ الشفاء من ذلك الطعام يُحتمل فيه أن يكون من جهةٍ إعجازية، وهو الأقوى ظهوراً، ويحتمل أن يكون لخصوصيّة يحملها ذلك الطعام، وكلا الأمرين لا ينفيهما قرآن أو عقل، بل في القرآن الكريم شواهد متعددة على ذلك، حيث تشيرُ بعض الآيات القرآنيّة إلى خصوصيّات صحيَّة في بعض الأغذية كاليقطين والعسل مثلاً، أو تارة أخرى تشيرُ إلى نحوٍ إعجازيّ كما في قوله تعالى للنبي أيوب (عليه السلام): (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، وبعد وضوح هذا، فأين الإشكال في تلك الرواية؟!
وبذلك: ينبغي أن يظهرَ أنّ تغنِّي هؤلاء بالمنهج القرآني والعقليّ في نقد التراث ليس إلا ذرَّاً للرماد في العيون، وإلا فينبغي وفقاً لمنهجهم أن يُسخر من الآيات الكريمة التي تشير إلى إصابة النبي أيوب (عليه السلام) بالمرض وشفائه بالاغتسال بعين الماء التي فجّرها الله تحت قدميه، إلا أن تكون خصوصيّةٌ في المرض ولها مدخليّة في السخرية والاستهزاء، فحينها نطالب جهابذة التنوير بالدليل العلميِّ بدلاً من التهريج البذيء والسّفالة الوقِحَة..
الثالث: إنّ التعبير بأنّ ذلك الشفاء المعجز قد منح النبيّ (صلى الله عليه وآله) قوّة أربعين رجلاً؛ فهذا لجهة الإعجاز، ولا يخفى أنّ النصّ على العدد أربعين ليس على وجه الحقيقة؛ لوضوح أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بقي في تلك الفترة بالحالة الطبيعيّة للإنسان الذي يعيش في عقده الخامس أو السادس، وهذا يشير إلى أنّ إطلاق العدد استعمالٌ مجازيٌّ دالٌّ على الكثرة أو شدّة الأمروكماله، فإنّ العرب تستعملُ ألفاظ العقود للدلالة على الكثرة أو المبالغة أو القوّة أو الشدّة أو الكمال وما يجري مجرى ذلك، والشواهدُ القرآنية كثيرة على هذا الأمر، وأظنه من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى الإطالة أكثر فأكثر، إلا أن يكون قادة التنوير يعانون من جهلٍ مفرطٍ بكلام العرب وأساليبه.. فحينها نؤجِّلُ الكلام فيه إلى مرحلةٍ أخرى لاحقة لئلا نخرج عن نطاق البحث في الحديث حول الزهراء (عليها السلام)، والله العاصم من الزيغ والهوى.

والحاصل: إنّ اعتبار الأسانيد الثلاثة -التي اعترف ميثاق العسر بأنّها معتبرة عند علماء الإمامية - لا يخدش فيه ورود عدد يسير من الروايات الشاذّة عبرها، ولو سلّمنا بوقوع الشذوذ في بعضها، فهذا لا يشكّل مانعاً حقيقياً من الجري على اعتبار بقيّة الأحاديث..وهذا كله يُفضي إلى بقاء اعترافه بأنّ الحديث معتبرٌ عند علماء الإمامية وفقاً لمبانيهم وتحقيقهم..

يُتبع..وسيرى الجميعُ التلوّن المفاجئ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رسائل في دراية الحديث، ج1، ص126: كتاب (البداية في علم الدراية)، جمع وإعداد: أبو الفضل حافظيان البابلي، الناشر: مؤسسة دار الحديث العلميّة الثقافية – قم المقدسة، الطبعة: الرابعة، سنة النشر: 1432هـ/1390هـ.ش.
(2) رسائل في دراية الحديث، ج1، ص479-480: كتاب (وصول الأخيار إلى أصول الأخبار)، جمع وإعداد: أبو الفضل حافظيان البابلي، الناشر: مؤسسة دار الحديث العلميّة الثقافية – قم المقدسة، الطبعة: الرابعة، سنة النشر: 1432هـ/1390هـ.ش.
(3) الموضوعات، ج1، ص150-151، عند تعليق المصنف على الحديث رقم 231، تحقيق: نور الدين بن شكري بن علي بويا جيلار، الناشر: دار أضواء السلف – الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1418هـ/1997م.
(4) ذكر ذلك في مقدمته على كتاب (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني)، ص7، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، سنة النشر: 1416هـ/1995م.




للتكبير: اضغط على الصورة
إعادة التذكير باعترافه بقيمة الأسانيد الثلاثة عند علماء ومحققي الإمامية